عبدالله بن محمد السعوي
لو استعرضنا المسيرة الفقهية لوجدنا لكل أمام من الأئمة في كل مسألة قولين أو ثلاثة أو أكثر، فأحيانًا يتبنى هذا القول، وأحيانًا يتبنى القول بنقيضه، وأحيانًا يرجع إلى قوله الأول، وأحيانًا يرجح قولاً ثالثًا، وأحيانًا يتوقف، وأحيانًا يأخذ بقول مخالفه الذي هو الآخر قد تراجع عما كان يسوقه قبلاً من قول إلى قول آخر في الضفة المقابلة،
وهكذا فهؤلاء الأفذاذ لا يعتقد أحدهم بحسم قول ولا يقطع بقطعية ما ارتآه من توجه الأمر الذي يؤكد لنا طبيعة ما يعتري أولئك العلماء من أشكال القصور البشري، ويؤكد لنا مرة أخرى عجز الإنسان ومحدوديته وعدم قدرته على القبض على الحقيقة دفعة واحدة أو معاينتها من الزوايا كافة والإحاطة بكل أبعادها. وما دام العالم على هذا النحو من النقص والعجز وعدم القدرة على إدراك الحقائق ناجزة وإنما على وجه التراكم والتمرحل والتدرج.. ما دام أن العالم على هذا النحو فكيف يسوغ أن ننظر إليه بهذا الشكل من التقديس الذي لا يليق أن يوجه لبني الإنسان؟!
إن الانهماك في تقديس الأفراد والفناء في شخوصهم لا يفوت بعض المصالح أو يشوه بعض المعالم الجمالية لهذا الحراك أو ذاك فحسب بل قد يدمر المنجز العام بكليته؛ وذلك لأن تعاظم الفرد وطغيان الحضور لهذه الشخصية أو تلك أمر من شأنه أن يقود - وعبر أدوات القوة الناعمة!- إلى اختزال - وربما إلغاء! - العقول واختصار حالات الإبداع وتقليل فرص الفرادة والتميز. ولو تمعنت في تراثنا الممتد - وخصوصًا إبان إغلاق باب الاجتهاد وتضييق دائرته واختزال مساراته - لألفيته زاخرًا بألوان من الأمثلة والنماذج الموغلة في التعصب سواء للمذاهب أو للأشخاص، وعلى نحو يؤكد أن ما نعانيه من إشكاليات وتأزمات منهاجية وما نشهده من حالات الاسترخاء الكسول ومن حالات الغياب لآليات التحديث الذهني المتتابع كل هذه ليست إلا امتدادًا لجذور عميقة ما زالت تداعياتها تزود الوعي وتمده بالكثير من بواعث التفكير المفتقر إلى النضج. ومن صور ذلك وأمثلته ما يأتي:
1- المبالغة في نسبة الفضائل إلى الأشخاص واختلاق ألوان من القصص الوهمية والسيناريوهات الخيالية بغية التأكيد على علو كعبهم ورفعة مقاماتهم، مع أن هؤلاء الأشخاص - كالأئمة الأربعة مثلاً - هم في الأصل ونظرًا لما يحظون به من شهرة ذائعة وحضور نوعي ممتد ليسوا بحاجة إلى تأكيد رمزيتهم أو إثبات إمامتهم المعرفية في مجالات التشريع!
ومن صور ذلك ما ذكره صاحب كتاب العلم الشامخ عن بعض الفقهاء المنتمين إلى المدرسة الحنفية حينما أكدوا أن «المسيح عليه السلام سيؤدي الصلاة مع الأحناف حينما ينزل! قال: فذكرت هذا لبعض العقلاء من الشافعية فقالوا: هذا مصرح به في كتب الحنفية» (العلم الشامخ ص 264).
وهذا (السبكي) أيضًا يتحدث - وفي لحظة من الاضمحلال لفقهيات التجرد! - عن مذهب الشافعي قائلاً: «وفي قوله صلى الله عليه وسلم (الإيمان والحكمة يمانية) مع اقتصار أهل اليمن على مذهب الشافعي دليل واضح على أن الحق في هذا المذهب المطلبي» (طبقات الشافعية الكبرى1/ 174).
ويقرر السبكي مرة أخرى - وبطريقة حتى الشافعي نفسه لا يرتضيها! - أن المجددين كافة في القرون السبعة هم من أولئك الذين يختطون نهج المدرسة الشافعية، فليس ثمة مجدد «قرني» في تلك الأحقاب الزمنية المتطاولة إلا وهو من الشافعية (الطبقات 107)
........................................................... يتبع