عبدالله بن محمد السعوي
الإمام (ابن الجوزي) هوالآخر مارس ضرباً من تلك المبالغات العجائبية والتي لا تثبت عند التحقيق وذلك في سياق إطرائه للإمام (أحمد بن حنبل) وبطريقة لا تؤدي إلا إلى رسم صور خيالية عن الأشخاص وبشكل يدفع إلى إضفاء القداسة عليهم وإحاطتهم بصور من الهالة التي هم أول من يأباها, فقد ذكر ابن الجوزي أن رجلاً جاء من بحر الهند يريد الصين..
أصيب مركبه, فأتاه راكبان على موجة من أمواج البحر فقال أحدهما له: أتحب أن يخلصك الله على أن تقرئ أحمد بن حنبل السلام؟ قلت: ومن أحمد, ومن أنتما يرحمكماالله؟! قال: أنا إلياس, وهذا الموكل بجزائر البحر, وأحمد بن حنبل بالعراق. قلت: نعم فنفضني البحر نفضة فإذا أنا بساحل الأبلة! فقد جئتك أبلغك السلام (مناقب الإمام أحمد ص186,187)
ويذكر أيضاً ابن الجوزي أن رجلاً من خراسان قال: عندنا بخراسان يرون أن أحمد بن حنبل لا يشبه البشر, يظنون أنه من الملائكة! وقال أبوزرعة:كان يُقال عندنا بخراسان:إن الجن نعت أحمد بن حنبل قبل موته بأربعين صباحاً (مناقب الإمام أحمد ص113) وهكذا يجري تداول مثل تلك المدائح التي تكال بغير حساب وتلك الأخبار الطافحة بالخرافة والتي لا تقود إلا إلى انطفاء العقل وتشويه الوعي وتعكير نقاء المصداقية والتجرد 2- المبالغة في التشنيع على المخالف، إذ هو أحد التداعيات الطبيعية الناجمة عن التمحور الحاد حول الذات والانحباس في إطارها ولا غرو,فالإسراف في المدح والمبالغة في القدح أمران متلازمان وجوداً وعدماً، إذ هما وجهان لعملة واحدة فتنامي أحدهما يؤدي - وبالتوازي!- إلى تمدد الآخر. ومن صور المبالغة في تشويه صورة المخالف والحدة في التعاطي معه بسبب مغايرته فقهياً أوعقدياً ما يذكره (ابن كثير) من أن بعض الطوائف يشبهون مخالفيهم بالحمير وأن أحدهم في القرن الخامس وتحديداً في حوادث سنة 49ه حين سمع رجلاً ينادي على حمار له ضائع؛ قال: يدخل باب الأزج ويأخذ بيد من شاء (البداية والنهاية 12/160)
وفي عام 514 أدى نشوب الخلافات واحتدام الخصومات ومناكفة الفرقاء إلى درجة الارتماء في أحضان السياسي - الذي قد يكون أحياناً مخالفاً لكلا الطرفين ولذا يلعب على تناقضاتهما وبشكل يضمن له تكافؤ القوى واستمرار حالة الاحتدام! - واستعدائه من قبل كل طرف على الطرف الآخر» وانتهى الأمر إلى فتنة قتل فيها جماعة من الفريقين «(وفيات الأعيان 2/98)
تلك البيئات المحتقنة وهذا الجو السجالي العاصف والمفضي إلى تقويض النسيج الجمعي العام تتكررصوره كثيراً على نحو يفتت اللحمة ويشظي المجتمع وأحياناً يصل الى درجة المطالبة بفرض الجزية على المخالفين كما في سنة 567 حينما قال أبوحامد الطوسي عن مخالفيه:» لوكان لي أمر لوضعت الجزية عليهم» (العبر 3/49)...يتبع