د.عبدالله البريدي
(1)
قبل نحو سنتين، وتحديداً في 4 ذي الحجة 1434هـ كتبت مقالاً في صحيفة الجزيرة بعنوان: (بريدة... تنقذ أم تغتال ناديها الأدبي!)، وقد افتتحته بالقول: (بريدة... ها أنتِ على موعد مع تاريخ يُدوَّن،
فإما أن يَكتبَ التاريخُ أنكِ أنقذتِ مؤسسة من مؤسساتك الثقافية العريقة (نادي القصيم الأدبي) من أن يتعثر مقرها الرئيس الذي يبُنى حالياً، أو أن يشهد عليكِ بأنكِ تقاعستِ عن «الواجب الثقافي»، ومن ثم أسهمتِ في اغتيال حلم المثقفين بمقر يليق بالثقافة في مدينة عُرفت بأنها مصدر غني لعدد كبير من العلماء والمفكرين والمثقفين والأدباء والكتّاب والشعراء والفنانين).
وقد ختمته متسائلاً: (... فهل تقول الثقافة فيها أيضاً: «يا حول ياللي ما له بريدة» أم تقول شيئاً آخر؟ بريدة... افعلي ما شئت، فأنتِ من يكتب تاريخكِ، وليس أحداً سواكِ، على أنني أعرف قدركِ وهمتكِ وتحضركِ، وسأكتب بعد فترة من الزمن كي أخبر شقائقك من «مدن الله» في الأرض بما ارتضيتهِ من فعلٍ تجاه هذه المؤسسة الثقافية العريقة (نادي القصيم الأدبي)).
(2)
لا بد لنا من تسجيل التاريخ كما هو، دون تزييف أو تشويه، ويعد هذا واجباً متحتماً من واجبات المثقفين. وتماماً كما وعدت، سوف أكشف لـ «شقائق بريدة» من «مدن الله»، كيف أن «أموال بريدة تخذل ثقافتها». كنا في الفترة السابقة - كما أوضحت في ذلك المقال - خائفين من تعثر النادي وعدم استكمال بناء مقره الجديد، وهنا أطمئن الجميع أن النادي لم يتعثر- ولله الحمد-، وليس السبب أنه تلقى «الدعم الواجب» من رجال الأعمال والأغنياء في بريدة، كلا، حيث رسبوا بامتياز، وذلك أنهم لم يدفعوا قرشاً واحداً لدعم بناء المقر.. وحين فشل هؤلاء نجحت الحكومة في إنقاذ «حلم المثقفين» في هذا المقر العصري، حيث جاء الأمر الملكي الكريم - من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان يحفظه الله - قبل عدة أشهر بدعم الجمعيات والأندية (ومنها الأندية الثقافية) بمبلغ عشرة ملايين ريال، وهو مبلغ يغطي جزءاً كبيراً من العجز.
وفي هذا السياق تتعين الإشارة إلى أن النادي لا يزال ينتظر استلام مبلغ الدعم الحكومي المشار إليه آنفاً، حيث لم يصله شيء بعد، وهنا نؤكد على ضرورة سرعة تسليم هذا المبلغ للوفاء بمستحقات النادي تجاه المقر، وبخاصة أن المبلغ جاء وفق أمر ملكي مباشر، ويتوجب على الجهات التنفيذية سرعة العمل بموجبه، دون تأخير، وبحسب علمي أن جهات عديدة استلمت تلك المبالغ وذلك بُعيد الأمر الملكي، مما يجعلنا نتساءل لماذا تأخر تسليم هذا الدعم للنادي ؟
ومع إحجام رجال الأعمال والأغنياء (والشركات الكبيرة في المنطقة) طيلة الفترة الماضية عن تقديم قرش واحد لمقر النادي، توقف النادي عن تسليم المقاول للدفعات المستحقة في أوقاتها المحددة في العقد، مما هدد المشروع برمته، وكاد أن يتوقف، لولا المبادرة الفكرية النهضوية من قبل المقاول المهندس منصور الرجيعي، إذ إنه قرر عدم إيقاف العمل في المقر على الرغم من عدم استلامه لمستحقات كبيرة متراكمة، وذكر لمحبي النادي بأنه سيستمر إلى حين الانتهاء من استكمال بناء المشروع، وقد حقق هذا الأمر بالفعل، حيث أنهى البناء تماماً. ولذا، فهو يستحق أن نسجل له الشكر والتقدير، وهو يجسد نموذجاً مشرفاً من رجال الأعمال في بريدة، وأحسب أن ذلك راجع لإيمانه برسالة الثقافة والتنوير التي يحملها نادي القصيم الأدبي. التاريخ سجل لك هذا الصنيع أبا محمد، ولن ننساه ولا الأجيال القادمة أبداً، فهنيئاً لك به وهنيئاً لنا بك. والشكر موصول بباقة ورد لعدد من الإخوة الذين قدموا الكثير لهذا المشروع الحضاري، ومنهم الدكتور أحمد الطامي والدكتور حمد السويلم والدكتور إبراهيم الدغيري والمهندس سليمان الفريدي والأستاذ فهد النصار ولبقية الإخوة أعضاء مجلس إدارة النادي.
(3)
وبعد الانتهاء من بناء المشروع، انتقل النادي مؤخراً إلى المقر الجديد بأثاثه القديم، والعجيب أن النادي لم يتلق بتاتاً أي دعم أو وعد بدعم من رجال الأعمال، مع ملاحظة أن النادي خاطب كتابياً وشفهياً عدداً كبيراً من رجال الأعمال في بريدة (وفي القصيم)، وكل الذين خوطبوا امتنعوا عن الدعم وأشاحوا بوجوههم عن الرسالة الثقافية التي تحملها مؤسسة ثقافية رسمية، فماذا يعني هذا؟
هذا سلوك مستغرب من رجال الأعمال، وفي بريدة على وجه التحديد، فالمشروع في قلب المدينة كياناً ونشاطاً،. لو تركنا لـ «الثقافة» هوامش التعبير عن نفسها في توصيف ذلك السلوك فماذا عساها تقول؟ ربما عبست الثقافة وافترت شفتاها عن ابتسامة عاتبة لتقول: يبدو أن رجال الأعمال لا يؤمنون بالعمل الثقافي، ولا برسالته التنويرية في المجتمع، ولا في محاربته للفكر المتطرف، وما قد ينجم عنه من أعمال العنف والإرهاب، ولا في تقويته للحمة الوطنية وتعضيد رأس المال الاجتماعي، ولا في إسهامه لزيادة الفاعلية المجتمعية وتعزيز الإبداعية لدى أفراده. وقد تواصل الثقافة القول: وهناك أدلة ومؤشرات على صحة ما أقول، فمثلاً، نجد أن كثيراً من رجال الأعمال في بريدة ينشطون لدعم بناء المساجد وتقديم الدعم للجمعيات الخيرية ونحو ذلك من أعمال البر، وهذا أمر حسن، ولكنهم لا يقدمون شيئاً للنادي الأدبي (مع أن تلك المجالات الخيرية الطيبة مكتنزة بعطاءات الموسرين وعامة الناس)؟ الدعم الوحيد للفعل الثقافي يتجسد عند أكثرهم بدعوة «أضياف الثقافة» على وجبة غداء أو عشاء في بيوتهم أو مزارعهم، والتقاط الصور التذكارية وإعداد المقاطع المصورة مع الضيوف والشخصيات البارزة.. !!
ربما تجرأت الثقافة في توصيفها لهذا الوضع غير المقبول لتقول لنا: من منظور ثقافي يصعب أن نطلق على هولاء «رجال أعمال» بل «حاويات أموال»، تكنز المال وتراكمه وتمنع وصوله إلى مؤسسات الثقافة ومبادراتها النهضوية ومشاريعها التنويرية، وذلك أن مصطلح «رجل الأعمال» كما هو مترسخ وممارس في المجتمعات الناهضة يؤمئ إلى شخصية اقتصادية تنموية؛ تمتلك وعياً فكرياً بأهمية الثقافة ولعبها دوراً محورياً في تصنيع الأفكار والأجيال الخلاّقة التي تحمل مشاعل مضيئة لأفكار استثمارية غير مألوفة، وخلق اتجاهات اجتماعية تقوم على الاعتدال والوسطية والسواء النفسي والفكري، مما يسهم في استقرار المجتمع واستدامة سبل تنميته وتقدمه في سائر المجالات.
من الحقائق الثابتة، أن الثورة الصناعية لم تتخلق إلا في «رحم الثقافة»، إذ اشتغل الفلاسفة والمفكرون عقوداً متطاولة واختطوا مسارات جديدة للتفكير العلمي والنقدي، فتمهد سبيل للعلماء والباحثين في مختلف العلوم، لكي يبتكروا، فالثورة الصناعية، إذن، قبل أن تكون «آلات بخارية» أو «معدات نسجية» هي «أفكار مبخّرة للجمود، تنسج على غير منوال؛ لتبدع الجديد»، وقبل أن تكون «سككاً حديدية صماء» هي «أفكار مرنة تفتّح الأذهان لمسارات غير مطروقة ولا مألوفة». وقد باتت النخبة من رجال الأعمال تؤمن بأن الثقافة الجيدة هي التي تصنع الاستثمار الجيد، ومن ثم فإن من الواجب المتحتم على مال بريدة أن يعتني بثقافتها، لا أن يخذلها، فالثقافة هي التي تصنع المال وتنميه، وقبل ذلك هي التي توعّي المجتمع وترقيه في مدارج التحضر؛ ضمن ثوابت الدين والوطن.
وأنبه إلى مسألة خطيرة، وهي أن بعض رجال الأعمال والموسرين ومن يمتلك التأثير عليهم يمارس نوعاً من الوصاية الفكرية، ويتوهم أنه قادر على صنع قولبة فكرية لأفراد المجتمع وفق ما يراه هو حسناً ومقبولاً. ومن ذلك أن أحدهم طالب بإزالة ما يسميه بـ «الكتب السيئة» من مكتبة النادي لكي يقدم دعماً مالياً لتطوير المكتبة وتوسيعها ؟ وهنا أتذكر قصة ظريفة - قبل أزيد من 50 سنة - لأحد مثقفي بريدة، حيث يذكر بأنه كان ينوي استعارة كتاب «البيان والتبيين»، فترصد له ناصح؛ طالباً منه ترك مثل هذه الكتب، والاستعانة بكتاب «رياض الصالحين». لم يدع صاحبنا «البيان والتبيين» ولم تتوقف حركة الفكر، ودارت تروس بريدة وستدور متجاوزة هذا النوع من الوصاية والقولبة، فقد كانت وما تزال قوية في ثرائها، غنية بتنوعها.
(4)
وللتاريخ أقول إنني - بحكم عضويتي في لجنة تمويل المقر وهي تطوعية - قد تحدثت مع بعض رجال الأعمال والموسرين في بريدة عن أهمية دعم المقر الجديد من حيث البناء والتأثيث، فرد علي بعضهم بأنهم «مقتنعون» بمثل هذا الدعم، إلا أنهم لا يمتلكون القرار، وذلك لارتباطه بـ«مجلس عائلي»، وأن أكثر الأفراد في هذا المجلس من «التيار التقليدي»، الذي لا يرى تقديم دعم لمثل الأندية الأدبية!. وهنا نتساءل، لماذا يكون هؤلاء من المستضعفين في مجالسهم العائلية؟ وهل تقبل «الثقافة» منهم مثل هذا العمل أو التبرير أو السلوك الانسحابي؟!
لا أدري، ولكن الذي أدريه جزماً أن مال بريدة خذل ثقافتها، وأن كثيراً من رجال أعمالها (أقول الكثير ولا أعمم) متقاعسون عن دعم المشاريع الثقافية، عدا مشاريع شكلية أو إعلامية. هذه، هي الحقيقة المرة التي يجب أن تدوّن وتُعلَم. ربما يكون بعض من رجال الأعمال على غير علم بحاجة النادي للدعم، أو أنه لم يكن قادراً في فترات سابقة على تقديم هذا الدعم، ربما. وهنا، أقول، بأن الفضاء ما زال مفتوحاً لإنقاذ السجل التاريخي لـ«رجال أعمال بريدة»، فالمستحقات ما تزال كبيرة، من جهة استحقاقات البناء أو استحقاقات التأثيث. وأدعو النادي إن لم يستجب أحد لمثل هذه الدعوات أن يخصص «أسهماً صغيرة» للدعم المالي، وأحسب أن المثقفين ومحبي الثقافة - على ضعف إمكاناتهم - لن يقصروا في هذا المسار. هذه رواية للتاريخ وللأجيال القادمة.