د.عبدالله البريدي
يمكنني القول باطمئنان شديد إن مهرجان تمور بريدة قد بات ضمن «هُوية بريدة» و «مغذيات الافتخار» لدى أبنائها والقاطنين بها، فأنا لا أكاد أذكر أنني من بريدة داخل المملكة وخارجها إلا وتمطر ذاكرةُ محدثي بما يخرج التمرَ إلى باحة حوار معه حول أنواع التمور وكمياته وكيفية تسويقه.
ويبدي كثيرون منهم رغبتهم بزيارة المدينة لكي يشهدوا بـ «أم تجربتهم» حدثاً اقتصادياً اجتماعياً ضخماً.
لقد أضحى مهرجان التمور مشكلاً عقلية استراتيجية تنموية في هذه «المدينة النهمة»، وربما يسعنا القول ان «التمر يطير ببريدة» حيث أوصلها إلى شيء من العالمية؛ عبر صناعة باتت تتكامل أركانها بمرور سنوات، وقد أفلح أهل بريدة - مسؤولون ومواطنون - في تشييد مدينة تسويقية للتمور هي الأضخم في العالم ( 165 ألف متر مربع في مرحلته الأولى)، مع العمل والترتيب لإيجاد فنادق وشقق وأسواق ومراكز متخصصة بالنخيل والتمور ومعارض مصاحبة ذات صلة بالتمور وتاريخها وصناعتها.
وتضم مدينة التمور سوقاً مفتوحاً وبورصة كبيرة يفد إليها ما يزيد على 2000 سيارة يومياً، ويقوم مجموعة من «الدلالين السعوديين» بمهام الترويج والبيع لهذه الكميات الضخمة التي غالباً ما تكون للبيع بالجملة، مع تخصيص ساحة لبيع التجزئة وجعل «المباسط» مقتصرة على الشباب السعودي، والالتزام بتنظيم مهرجان سنوي يمتد إلى ما يقارب 40 يوماً (عملياً هو أكثر من ذلك).
ومن مظاهر النجاح التسويقي المبهر، أن المهرجان لم يعد سوقاً لبيع تمور القصيم والمناطق القريبة، بل غدا قناة تسويقية لتمور مناطق نائية عن بريدة، فالتمر - على سبيل المثال - يُجلب من «أملج» وغيرها من المناطق البعيدة.
ولم يتغافل المهرجان العالمي عن الحرف اليدوية ذات الطابع التراثي الأصيل، وقد أبدع المنظمون هذه السنة (2015) في إضافة فعالية تراثية ترفيهية ماتعة، حيث جهزوا مزرعة كبيرة في منطقة الصباخ المتاخمة للسوق، وهي «فعالية في ظلال النخيل»، إِذْ أوجدوا جلسات عائلية وشبابية، يتم حجزها بعد الفجر مباشرة وبعد العصر أيضاً، مع توفير سلسلة من المطاعم التي تقدم وجبات تراثية وحديثة، ومنها «خبز على الصاج بالسمن والتمر»، وتشغيل ما سمَّوه «تلي ماتش النخيل» (محاكاة للبرنامج الألماني الشهير).
ولفتة رائعة راقت لي كثيراً أن هذه الفعالية استقطبت بعض المبدعين والمنتجين من خارج المنطقة، فمنهم من قدِم - مثلاً - من الأحساء ليقدموا منتجات حرفية من مكونات النخيل وأجزائها وبعض الأكلات أيضاً (الخبز على الصاج المذكور آنفاً يقدمه أحد هولاء)، وفي ذلك إثراء وطني. وفي سياق الانشداد نحو عالمية السوق، هنالك عديد المؤشرات، ومنها أن تجاراً من بعض الدول الأوروبيَّة كفرنسا قدموا واشتروا تمراً بمبالغ كبيرة لإعادة بيعها هناك، وزار فعالية في ظلال النخيل بعض الأجانب وأبدوا إعجابهم بمثل هذا الاحتفاء المتحضر بالذاكرة التراثية.
ولعلي أذكر جملة من المقترحات والملاحظات التي آمل أن تسهم في تطوير المهرجان كماً ونوعاً، صناعة وثقافة، فكراً وتطبيقاً:
1 - أقترح تخصيص فعالية لـ «أشبال التمور»، تستهدف صناعة جيل قوي، يؤمن بهذه الصناعة ويغذيها بعلمه وفكره وتسويقه وجهده، ويمكن لبعض المتخصصين أن يضعوا استراتيجية لمثل هذه الفعالية بالتعاون والتنسيق مع وزارة التعليم.
2 - من المهم العمل على إيجاد منافذ احترافية لبيع فسائل النخيل، على أن تكون ضمن برنامج متكامل من الناحية المعلوماتية والصحية والبيئية والتسويقية.
3 - تعزيز الفعاليات ذات الطابع التراثي المجتمعي، فالنجاح الكبير لفعالية في ظلال النخيل يؤكد على أن الناس متعطشة لمثل هذا اللون من الحراك الثقافي الراقي.
4 - لعل المهرجان يخصص ندوات علمية وفكرية مصاحبة، إِذْ يمكن طرح بعض الأوراق العلمية والفكرية ذات العلاقة، وفق محاور يتم الإعلان عنها مسبقاً، مع أهمية استقطاب باحثين من خارج المملكة، وذلك لدفع تروس التفكير خارج الصندوق.
5 - تبني المهرجان بالتعاون مع عمادة البحث العلمي ومعهد الخدمات البحثية والاستشارية بجامعة القصيم لإعداد دراسات علمية في مجالات التمور وتسويقها. وأجزم بأن الجامعة سترحب بمثل هذا التعاون.
6 - إيجاد لوحات إلكترونية في مسارات بيع التمور للتعريف بأنواع التمور، وبث معلومات توعوية وإعلانية، ويمكن لذلك أن يدر دخلاً جيداً في الوقت ذاته، لمعاونة المهرجان على التوسع في أنشطته وفعالياته المجتمعية.
7 - تهيئة المسارات لذوي الاحتياجات الخاصة، وتأمين مركبات صغيرة تمكّنهم من التنقل والتسوق بيسر وسهولة.
8 - تعزيز البعد الإعلامي، وبالذات في شبكات التواصل الاجتماعي، وأقترح تنظيم حملة في «سناب شات» مشابهة لحملات «مكة لايف»، وأحسب أنها ستحقق نجاحاً جيداً في إيصال رسالة المهرجان وترسيخ عالميته.
تلك كانت جملة من المقترحات، وأما الملاحظات «النقدية» فلدي ملاحظة جوهرية ألخصها في الآتي: تسعى إدارة المهرجان مشكورة للإفصاح عن الحالات التي تتضمن مخالفات لشروط الجودة، ويتم الإعلان اليومي عن عدد تلك الحالات، بيد أن لديّ ملاحظة على هذه الممارسة، فأنا أرى أهمية جعل الإعلان مفصلاً، بحيث يتم الكشف عن الحالات التي تتضمن مخالفات لها علاقة بالجانب الصحي والبيئي، وعلى رأسها ما يتعلق بمتبقيات الكيماويات المستخدمة بمختلف أنواعها، ولا سيما أنه من المعلوم أن النخلة قد تُصاب بداء معين في أي وقت مما يلجئ المزارع لرشها، الأمر الذي قد يوجد بعضاً من تلك المتبقيات في الثمرة، بجانب اضطرار البعض لحقن بعض النخيل بمواد كيماوية لمكافحة سوسة النخيل، وقد يصل شيء من ذلك للثمرة أيضاً، وذلك وفق ما أخبرني به بروفيسور متخصص في هذا المجال. بمعنى أنني أطالب بأن يكون الكشف عن الحالات المخالفة مفصلاً وليس مجملاً، وسيكون لذلك تأثير إيجابي على البعد الزراعي والبيئي والصحي والتسويقي.
وأهمس لبريدة وأخواتها فأقول: كم هو جميل أن يخلق الناس منتجاً من بيئتهم المحلية، يحققون به استثماراً اقتصادياً، وتدريباً لأبنائهم على فنون الزراعة والتجارة والتسويق، ومنفذاً لتاريخهم القديم، وقالباً مبتكراً لحفظ تراثهم من الضياع في سياق مجتمعي إعلامي، يدفع إلى جعل العالم مملاً ومكروراً، فأشياء كثيرة من حولنا باتت تتعولم بنهج استنساخي أجوف، فالأسواق والأثاث واللباس وكثير من الفعاليات، حتى النكت للأسف الشديد فقدت كثيراً من «عذوبتها المحلية» من جراء غلبة «ثقافة الصور»، فمقاطع الفيديو في اليوتيوب - وغيرها - تجعل من العالم قرية صغيرة تتبادل نكاتها وطرائفها ببلاهة لا تحسد عليها.
وفي ختام مقالتي هذه، أقول لأهل بريدة انه يحق لكم أن تفخروا بمثل هذا المنجز التنموي الكبير، مع ضرورة تلبسكم صغيركم وكبيركم بالروح الناقدة المبتكرة، فالاحتفاء لا يعني التورط في «فخ الكمال»، مما يجعلنا نسابق الزمن للاقتراب من تخوم الكمال - قدر المطاق البشري - في أبعاده الفنية والاقتصادية والتسويقية والثقافية، ودفع تكاليفه الآنية والاستراتيجية، لترسيخ مقومات أن «التمر يكاد يكون بريدة»!