عبدالله بن محمد السعوي
فكرة عدم تقديس الأشخاص أو عدم الغلو في المذاهب هي أحد المرتكزات النظرية الأساسية التي تحتفي بها أدبيات النشاط الفقهي وتستحضرها وبكثافة عالية على مستوى الممارسة التنظيرية المجردة، حيث كثيراً ما يتم التأكيد على هذا المبدأ ونتعاطى معه - مبدئياً - على أنه محل العناية النبوية من جهة وعلى أنه أحد أشكال التعبير عن مدى التلبس باشتراطات المنهج من جهة أخرى طبعاً هذا على صعيد الطرح التقريري المجرد فحسب، أما على صعيد الواقع فإن من يتمعن في تراث الأمة فسيلاحظ أن خط سيرها المعرفي - في كثير من أحواله - كان مغايراً تمام المغايرة لذلك المبدأ المنهجي الذي طالما تواصينا على ضرورة استدعائه واستنساخ تمظهراته.
التقديس سواء للمذاهب أو للأشخاص يتزايد في بعض السياقات وبشكل اطرادي واضح رغم أن المفترض أن يكون العكس لأن الفقه بحكم طبيعة تنويعاته المتعددة ومدارسه المتباينة ومساراته المختلفة، فضلاً عن كونه يتيح فضاءات أوسع للتحرك فإنه أيضاً يولد ذلك العقل الظني الاحتمالي المحكوم بالبعد النسبي وعلى نحو يسهم في الانعتاق من ربقة الشخصنة، ومن ثم وضع الأمور في نصابها الصحيح.
إن احترام المذاهب مطلب وحفظ مقامات الأشخاص قيمة أخلاقية رفيعة والاعتراف بمميزاتهم وبما خلفوه من بصمات إبداعية واضحة واجب تمليه مقتضيات العدل والإنصاف والموضوعية وليس في هذا إشكال إنما الإشكال هو في المبالغة في تضخيم الذوات والذوبان في إطارها وعدم القدرة على مبارحة بؤرتها، وهنا مكمن الإشكال لأن التقديس للأشخاص - سواء في المجال الفقهي أو في غيره من المجالات الأخرى اجتماعية كانت أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها - فضلاً عن أنه مرفوض شرعاً وبضرورات فقه النصوص التي تعده أحد أبرز إفرازات التخلف إلا أنه أيضاً إضافة إلى ذلك هو الذي يوفر للمقدَّس لوناً من الغطاء المعنوي وتمنحه قدراً من التسويغ الشرعي الذي يتيح له - بقصد أو بدونه! - تجاوز المنهج والالتفاف على نظام الحقيقة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهذا التقديس يضع حواجز سميكة ويولد ألواناً من الهيبة الشكلية والمصطنعة التي تزيد من مستوى الغثائية في الأمة حيث يبيت الجميع أرقاماً مكررة مستنسخة لا قيمة لها في عالم المعنى هذا من جهة، ومن جهة أخرى تحمي الأشخاص من النقد وتمنحهم حصانة تحول دون مساءلة منتجهم المعرفي أو نقده أو تعريضه لفضاءات البحث المنهجي الحر.