عبدالله بن محمد السعوي
الانحياز إلى المنهج والانشداد إلى كافة أبعاده ليس حالة معرفية عابرة عند كثير من خيار الأمة الأوائل بقدر ما كان سلوكاً منهجياً، بل في بعض السياقات المعرفية والتاريخية كان يبدو وكما لوكان يشكل نسقاً عاماً يتحكم في آلية الاستدلال وإستراتيجيات التلقي. تجاوز حالات الشخصنة لصالح التمحور حول المنهج والدوران في فلكه هو الذي حمل الإمام (الشافعي) على تبني رؤية (أبي عبيد القاسم بن سلام) الذي هو الآخر تمثّل رؤية الشافعي حينما دلفا في مناظرة حول المقصود بكلمة ( قرء) فالشافعي يرى أن المقصود هو الحيض وأبو عبيد يقرر أنها: الطهر. ولم يزل كل منهما يقرّر قوله ويحشد الحجج لتأكيد صحته حتى تفرّقا وقد انتحل كل منهما مذهب صاحبه وتفاعل مع ما أورده من براهين وحجج. انظر(قواعد الأحكام 2/135) وإذا كان أولئك يتعاطون على هذا النحو وبذلك النفس المنهجي العميق وبتلك الروح الاستدلالية الصارمة والمتلبسة بفريضة التجرد إذا كان أولئك كذلك فقد خلف من بعدهم خلف امتهنوا شخصنة المعرفة والاحتشاد خلف الأسماء مقابل الازورار عن مقتضيات السلوك المعرفي الممنهج والمعبر عن سلوك فقهي متجرد هؤلاء طغى عليهم ذلك السلوك وبات وكما لو كان يمثل هويتهم الأولى مع أن بعضهم محسوب من الفقهاء كما يشير إلى ذلك (العز بن عبد السلام) حينما قال: «ومن العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف ما أخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً ومع هذا يقلده فيه ويترك من الكتاب والسنة و الأقيسة الصحيحة لمذهبه على تقليد إمامه، بل يتحلّل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلَّده». ثم قال: «وما رأيت أحداً عدل عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره بل يصبر عليه مع علمه بضعفه «(قواعد الاحكام2/135).
إن الشخصنة - كسلوك مجرد وكحالة سكونية جامدة - هي ضرب من التصنيم الذي يهبط بالعقل إلى مستويات مخجلة إنها لون من إضفاء المطلقية والكمال على كينونةٍ من أبرز خصائصها النسبية والنقص والمحدودية بينما المنهج هو مثالي آفاقي قد تقترب منه التجربة البشرية تارة وقد تتمثله تارة وقد تنأى عنه وتخفق في تجسيده تارة أخرى.
الشخصنة - كممارسة تعبر عن لحظة ابتذال للوعي لا لحظة نهوضه وسموقه - هي من يعزّز فرص تصنيم الذوات ويحمي الاجتهادات الشخصية من النقد والمساءلة والتشريح الأمر الذي يجعلنا أمام حالة من حالات العصمة التي نمنحها بسخاء لامحدود إما لذات أو لحزب أو لمذهب أو لمعرفة نحيلها جراء تلك الوثوقية والاطلاقية إلى أقنوم جامد رغم كونها - أي المعرفة - ترتكز على الجدل الديناميكي وعلى الحراك المتكيء على النفي ونفي النفي!