عروبة المنيف
تتأثر السلوكيات الاجتماعية عادةً بالتغيرات الاقتصادية، وأي دورة اقتصادية سواء كانت منخفضة أو مرتفعة، تعمل على إحداث تأثيرات مختلفة في التركيبة الاجتماعية بشكل عام. ففي زمن الوفرة الاقتصادية تختلف السلوكيات الاجتماعية فيها عن زمن الندرة، وتُعدُّ التحولات الاقتصادية في الغالب من أهم المحركات الرئيسية التي تساهم في التغيرات الاجتماعية وفي تغيير السلوك الاجتماعي السائد.
فالمجتمع السعودي كأي مجتمع طبيعي يتأثر بالمتغيرات الاقتصادية الحالية فيتحرك باتجاه التكيف والتأقلم مع المعطيات الاقتصادية الحاضرة في سبيل تيسير معيشته وضمان حياة مستقرة في حدود إمكانياته المتاحة، وتعاقب الطفرات النفطية عليه ساهم بشكل كبير في تغيير السلوك الاستهلاكي والاجتماعي لديه.
إن الدورة الاقتصادية التي يمر بها الاقتصاد السعودي نتيجة انخفاض أسعار النفط مؤخراً ساهمت في انخفاض الوفرة المالية وبالتالي انخفاض الدخل القومي، وما أعقب ذلك من انخفاض الدخل الفردي، في ظل ثبات الدخل الفردي «سلم الرواتب الذي لم يتغير منذ ما يزيد على ربع قرن من الزمان وأكثر»، وفي ظل رفع تسعيرة الخدمات العامة أيضاً. فرفع أسعار الطاقة بشكل عام سواء كانت أسعار البنزين أو الكهرباء أو المياه كنوع من السياسة الضريبية للدولة، أدَّى بالطبع إلى ارتفاع في أسعار المواد الغذائية الأساسية وفي ارتفاع أسعار السلع الكمالية أيضاً. كل تلك التغييرات ساهمت في ارتفاع مستوى التوتر لدى المواطنين، وذلك نتيجة عامل «المفاجأة» في تلك «الإجراءات الضريبية».
ولم يسلم القطاع الخاص من تلك الهزة الاقتصادية أيضاً، حيث إن اعتماد عدد لا يستهان به من شركات ومؤسسات ذلك القطاع على الإنفاق الحكومي أدَّى إلى تعثر مشروعاتها، وبالتالي انخفاض مداخيلها النقدية ما سبب لها شحاً في السيولة إلى الدرجة التي وصل إلى أسماعنا أن بعض الشركات التي لها سمعة اقتصادية في السوق قد عجزت عن تسديد استحقاقات متعددة كرواتب الموظفين؛ ما ساهم في تسريح العمالة وما لذلك من تأثير سلبي على معدلات البطالة وعلى مستوى الرفاه الاجتماعي.
هذه المتغيرات الاقتصادية تركت أثراً واضحاً على المزاج الشعبي من خلال عدم القدرة على تقبل انخفاض السيولة النقدية لديهم، ما يستدعي إحداث تغيرات سلوكية استهلاكية على المدى المتوسط والبعيد. فمن يسكن الفلل أو المساكن الكبيرة التي تحتوي على حدائق كبيرة مع مسابح على سبيل المثال سيكون مضطراً بعد حين لتغيير سلوكه الاستهلاكي وذلك بتخفيض تكاليف تشغيل وصيانة منزله. وبديهياً سيشمل ذلك التفكير بالانتقال إلى مسكن أصغر وأقل تكلفة، ولاسيما أن تكاليف استقدام وأجور العمالة المنزلية أيضاً في ازدياد مطرد ناهيك عن ازدياد تكاليفها الاجتماعية.
تلك الإشكالية المجتمعية تتطلب من وزارات معنية بالتحرك، بدءا من وزارات الفواتير الجنونية كـ«وزارة المياه» وانتهاءً بوزارة الإسكان مثلاً، إِذْ عليها أن «تفكر» بشكل أعمق أو أن تشاركنا معها في « التفكير» لإخراج المواطن من هذا الوضع الذي وجد نفسه واقعاً فيه. فالراتب أصلاً «لا يكفي الحاجة»، فكيف سيتصرف مع فواتير خدماتية تأتيه كالصواعق في ظل ارتفاع خيالي في أسعار المساكن أيضاً.
إن التمدد الأفقي المعتمد منذ زمن في تخطيط المدن لدينا ساهم في ارتفاع أسعار الأراضي نتيجة قلة المعروض منها وساهم أيضاً في هدر كبير للطاقة سواء كانت الماء أو الكهرباء أو البنزين «أجور النقل»، فالاتجاه إلى التوسع السكاني العمودي أصبح ضرورياً في ظل شح الأراضي وارتفاع تكاليفها، وفي ظل أيضاً ارتفاع فاتورة تشغيل الوحدة السكنية الواحدة ما يتطلب من وزارة الإسكان بالتعاون مع وزارة الشؤون البلدية والقروية بأن تبادرا في بناء وحدات سكنية عمودية «مجمعات سكنية نموذجية»، بواسطة التعاقد مع مطورين عقاريين محليين، بحيث تكون تلك الوحدات مجهزة بالمرافق اللازمة من مدارس وحدائق ونوادٍ ومكتبات ودور حضانة وغيرها من خدمات ومرافق ضرورية لخدمة «الأحياء السكنية النموذجية»؛ بهدف التقليل من تكلفة الوحدة السكنية الواحدة سواء عند الإنشاء أو الصيانة، ما سيساهم في تخفيض أسعار الأراضي وفي تخفيض فاتورة التشغيل أيضاً لكل وحدة سكنية من ماء وكهرباء وخلافه. إن عدد» السيفونات» في الوحدة السكنية سيقل بالطبع ما يضمن تخفيض» فاتورة المياه» الجنونية طبقاً لحسابات وزير المياه!.
إن الوزراء مكلفون بالعمل بأساليب أكثر ذكاءً وأكثر احترافية والتحرك السريع حسب المعطيات الزمانية والمكانية من أجل رفاهية المواطن وإسعاده لا بتوريطه «بدون إشعار مسبق» بتلك «الفواتير الخيالية»، إن استطاع دفعها هذه السنة فلن يستطيع دفعها في السنة القادمة.
إن التحرك في اتجاه حل أزمة الإسكان أصبح أمراً ملحاً ليس لمن لا يملكون سكناً فقط، بل لمن لا يستطيعون أيضاً تحمل التكاليف المرتفعة باطراد لتشغيل الوحدات السكنية الكبيرة التي يملكونها ويقطنونها.