د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
لا ينكر أحد أهمية شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أمر الله بإقامتها، كما في سورة آل عمران: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) .
وفي الآراء التي كتبت في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في الأسابيع الفائتة على الرغم من تباينها وحدّتها التي انطلقت شرارتها من الأسلوب العنيف والمهين الذي تعامل به أحد المحسوبين على الهيئة مع فتاة لم تستجب لطلبه أن تغطِّى وجهها وهي خارجة من مجمّع تجاري، لم يتبيّن أن أحداً رأى ترك القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي هذا الفائدة الأولى التي تؤكّد أنه يقف وراء دولتنا مجتمع موحّد في اعتزازه بدينه وقيمه. لكنّ النقاش تشعّب إلى ثلاثة أمور:
- الأول: هل كشف الوجه حرام؟
- الثاني: رفض أسلوب التعامل الفظ.
- الثالث: دور الهيئة كمؤسّسة.
أمّا الأمر الأول فإنه يتعلق بمبدأ مهمّ، هو تعريف المنكر الذي يجب النهي عنه شرعاً؛ فإن بعض الأفعال قد نستنكرها عرفاً أو لأنها غير مألوفة ويظنها الجاهل بها حراماً، وهي لا تؤثر على دين الشخص ولا أخلاقه. كما أن بعض الأفعال مختلف عليها في الحكم الشرعي ومع ذلك يؤخذ بالرأي الفقهي الأشدّ.
- سدّاً للذريعة وتغليباً لها على المصلحة على الرغم من أنه لا يوجد ما يربط بين الفعل والمفسدة التي يجب درؤها. وكثير ممّا اعتُبِر سابقاً من المنكرات قد تغيّرت النظرة إليه لأن أحوال الناس تغيّرت أو تطورت. قبل ستين سنة كان (النواب) -ويسمّوْن الهيئة الآن- يلاحقون شرب الدخان ولعب الورق (الجنجفه) وسماع أغاني الراديو، ويرتابون في ساري الليل، إلى جانب قيامهم بمهمة محاربة الكبائر وعقاب مرتكبيها وتفقّد الجماعة في صلاة الفجر. بعد ثلاثين سنة، لم يعد يمارس شيئاً من ذلك ما عدا محاربة الكبائر ومراقبة إغلاق المحلات قرابة موعد الأذان. أما محلات أشرطة الأغاني والأدشاش (في أول عهدها) فقد وضعت في خانة المنكرات، ثمّ (مُحيت) منها الآن مثل سابقاتها، إمّا لأنها صارت شائعة وفي حكم العادة لا يستنكرها المجتمع، أو لاقتناع (الحسبة) بأنه لا يخاف منها على الدين، أو لأن بعضها فيه ينتفع به في بثّ الأنشطة الدعوية على نطاق أوسع كالأشرطة والقنوات الفضائية). ومثل هذا التكيف شبيه بمعارضة فتح مدارس البنات قبل خمسين سنة، ثمّ اقتناع معارضيها بضرورتها. هذه أمور تتغيّر بتغيّر الأزمنة وتطور أساليب الحياة ونضوج وعي المجتمع، ولا يمكن الوقوف في وجه هذا التطور والوعي ومنع حدوثه بادّعاء منكرات متوهّمة لا وجود لها. نعم يمكن تأخير حدوثه بعض الوقت، وعندئذ تظهر النتائج السلبية لهذا التعطيل. فالاستمرار في منع كشف الوجه ومنع الحضور المباشر للنساء في الاجتماعات والندوات التي يشاركن فيها بحكم العمل، ومنع الشباب من دخول المجمّعات والأماكن العامة في أوقات معينة أو بهيئة معيّنة، أو ملاحقتهم لمجرد الظن والحكم على النية، ومنع دور السينما مع أنه يمكن رقابة ما يعرض فيها مسبقاً ورقابتها أثناء العرض، ومنع رياضة النساء ومنع قيادتهن للسيارة وغير ذلك من أشياء ممنوعة لا يمارَس فيها منكر محرّم أو تقود تلقائياً لمحرّم، لكن ملاحقتها تقود لنتائج عكسية مثل دفع الشباب إلى الاستراحات التي تبعدهم عن مجتمعهم ثقافياً واجتماعياً وتنفّرهم من الحياة العائلية، ومثل السفر إلى الخارج في أي إجازة قصيرة أو طويلة، واعتماد النساء على سائق أجنبي أو على الرجل عامة ممّا يحدّ من قدرتهن على قضاء أمورهن ومتابعة حقوقهن بأنفسهن، بعد أن بلغن شأواً بعيداً في العلم والمهنة. وبمناسبة توقّع المجتمع لقرار إغلاق المحلات في التاسعة مساء، فإن إبقاء المحلات مفتوحة وقت صلاالعشاء -التي يجوز تأخيرها- ليس منكراً لأنه لا يعطل شعيرة الصلاة ولكن يشجع التجار على توظيف السعوديين، ويشجع الناس على التسوّق المبكّر وكسب بعض الوقت للحياة الأسرية، ويحدّ من الزحام المروري قبل وبعد الصلاة. في كل ما سبق يمكن الخروج بفائدة ثانية وهي ضرورة تحديد المنكرات التي تقتضي التدخل النظامي، والأفعال التي يكتفي فيها بالنصح أو الزجر.
الأمر الثاني: يخص أسلوب التعامل مع من يُظن بهم فعل المنكر. فإن كل الآراء المختلفة لم تؤيّد أسلوب العنف والإهانة المتبع مع الفتاة، وينسحب هذا على الحالات المماثلة. وحتى أشدّ المعترضين على نقد الهيئة رأى أن النقد كان يجب أن يُوجّه لأسلوب التعامل لا أن يتحوّل إلى هجوم على الهيئة، فالفائدة الثالثة إذن هي أن هناك شبه إجماع على ضرورة تصحيح الأسلوب المتبع في الحالات التي ترصدها الهيئة- امتثالاً للشرع وحمايةً لحقوق الفرد وكرامته.
الأمر الثالث عن الهيئة ومسؤولياتها، فمن الواضح أن مسؤولياتها تمتدّ من القضايا الأخلاقية والسلوك الأخلاقي العام لتشمل السلوك الديني العام، مثل الأمر بإغلاق المحلات في أوقات الصلاة وفي منع المظاهر المخلّة بشعيرة الصيام وفي منع الحفلات الغنائية... إلخ، وتمتدّ لتشمل أيضاً وسائل الإعلام والمواد واللقاءات الفكرية. وأحياناً يختلط عمل الهيئة مع نشاط محتسبين لا يراعون حرمة المكان أو الأشخاص. وهذا الكمّ الضخم من المسؤوليات وامتداداتها يهيئ مساحة أعرض لتصويب سهام النقد، ومن ثَمّ فإن ما يسمّيه فريق المعترضين على النقد تعميماً لحالات فردية بقصد الإساءة للهيئة ذاتها، إنما هو انفعال متراكم من حالات عديدة متكرّرة تتنوع مع تنوّع وتمدّد مسؤوليات الهيئة في المجالات الدينية والأخلاقية والفكرية، وحيث لا خلاف على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن التكليف بالقيام بهذا الواجب يجب أن يُسند إلى هيئة قوية - على أن تكون:
- مستقلّة، أي ليست صدىً لتيّارات محافظة متشدّدة وأحكام مسبقة أو فتاوى تبالغ في سدّ الذريعة حتى لو سدّت المصلحة ولم تراعِ السياق الزمني والمكاني في أحوال العصر والناس. وللهيئة أن تسدّ النقص في رجالها بمتعاونين متعلمين ملتزمين بنظامها ومعاييرها ويحملون بطاقاتها.
- ومتخصصة بتأهيل رجالها في الإدارات المتوسطة وفي الميدان، وتجهيزهم بتعليمات واضحة لا تدع مجالاً للاجتهاد الفردي في التفسير والتنفيذ، وعلمية في تحديد المنكرات والتمييز بين ما هو مقدمة واضحة لفعل المنكر يتطلب التدخل مثل تهريب المسكر والتحرش الجنسي وبين ما يكفي فيه مجرد النصح والتنبيه أو مجرد المراقبة، وبين ما يتطلب الزجر مثل المهاوشات أو مضايقة العائلات ثُمّ التدخّل إذا تكرّر؛ و ما يجب فيه أخذ إذن ولي الأمر قبل التدخّل مثل اقتحام المساكن أو المكاتب عند توافر قرائن قوية.
- وتحظى بدعم المجتمع كله عندما تنتهج أسلوب التعامل برفق واحترام لحقّ الفرد وكرامته في كل الحالات التي تحدث فيها مواجهة صغيرة أو كبيرة، ودون اللجوء لمجرّد الظن واختراق النوايا. والمجتمع يزداد ثقة واحتراما إزاء الهيئة عندما يراها لا تقف عقبة في طريق تطوره، بل تتفهّمه وتكافح أي سوء استخدام لهذا التطور مثل مكافحة التحرش عند ما يتقبّل المجتمع كشف المرأة لوجهها أو قيادة السيارة، أو عندما يُسمح بإدخال السينما، أو عندما يسمح للشباب بارتياد الأماكن الممنوعة عنهم أو الحفلات الفنية. فهي إذن تدع التطور يحدث، وتضع الإرشادات وتراقبها لكي لا يحدث ما يفسده. فالناس أيضا لا يقبلون المنكر.