عبدالله بن محمد السعوي
وكما هو معروف على مدى تاريخ الحراك الفقهي يعييك أن تظفر بمذهب تفرد بالتمحور حول الحقيقة أومدرسة فقهية انطوت فقط على الصوابية وتلبست بصورها كافة، كما أنه يعييك في المقابل أن تعثر على مذهب تواضع أداؤه المعرفي فخرج على الشرط الفقهي ومكوناته، وانفرد بالأخطاء وصارت لصيقة به في كل حال؛ فالصواب موجود هنا وهناك..
والخطأ مشاع لا يخص انتماء فقهيا بعينه والمسكون برصد الأداء الفقهي وملاحقة المستجد في هذا السياق يعي ذلك وخيار الأمة الأوائل بدورهم أدركوا تلك الحقيقة واستشعروا مقتضياتها، وأدركوا أن المنهج أكبرمن الأشخاص وأن المسائل لاينضجها إلا الأخذ والرد ولا يذكيها إلا تعريضها للفحص والاختبار والمداولة البينية من خلال تكثيف ذلك الحضور الفاعل للحالة الجدلية وتنويع مساراتها بقدر ماتسمح به اشتراطات اللحظة من جهة والمواضعات الأصولية التي تحمي من الميوعة الدلالية من جهة أخرى .
ضرب هؤلاء الأئمة أروع الأمثلة في التجرد من المسبقات وتجاوز الحكم القبلي الجاهز؛ فقد كان الواحد منهم باحث معلومات لا مثير إشكاليات ولذا يتعاطى مع مخالفه - بعدما يثبت له صوابية توجهه- وكما لوكان المنعم المتفضل. لقد كانت تنعقد بينهم ألوان من الحوارات والمناظرات التي تنتهي بتمثل كل طرف لرؤية الآخر,كل طرف يتبنى الرؤية المخالفة وينتحل الفكرة التي أنشا الحوار- ابتداء!- لتفنيدها وتكريس نقيضهاالمعرفي كما في قصة الشافعي حينما دخل في مناظرة فقهية مع إسحاق بن راهويه - وكان من ضمن الحضورأحمد بن حنبل - فتناظرا حول جلد الميتة إذا دبغت فقال الشافعي: دباغها طهورها. فقال إسحاق : ما لدليل؟.قال الشافعي :حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عباس عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: هلا انتفعتم بجلدها. فقال إسحاق:حديث ابن عكيم كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر: لاتنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب أشبه أن يكون ناسخالحديث ميمونة لأنه قبل موته بشهر فقال الشافعي: هذاكتاب وذاك سماع فقال إسحاق: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وكان حجة عليهم عندالله فسكت الشافعي فلما سمع أحمد بن حنبل ذلك ذهب إلى حديث ابن عكيم وأفتى به ورجع إسحاق إلى قول الشافعي، فأفتى فيه بحديث ميمونة (طبقات الشافعية الكبرى 237/1)