عمر إبراهيم الرشيد
لا يختلف منا اثنان أننا نمر نحن المسلمين والعرب بأحلك صورة وسمعة، أسهم في ترسيخها في جزء كبير من الذهنية الغربية والشرقية أعداء هذه الأمة وبعض أبنائها مع شديد الأسف، ممن ضلت بوصلة عقولهم وقلوبهم الطريق؛ فأساؤوا لبلدانهم وسائر أمتهم؛ فخدموا أعداءها أعظم خدمة، وبدمائهم بكل أسف. إنما يظل في هذه الأمة الخير إلى يوم الدين، ولا تعدم الخيرين وصانعي النجاح والمكارم من
قادة وعلماء وأفراد من مختلف الفئات والجهات.
حين أطلقت حكومة المملكة - أيدها الله - برنامج الابتعاث للطلبة والطالبات احتدم الجدل وما زال، وإن خفت وتيرته، لجهة التخوف من التأثير الفكري أو العقدي على المبتعثين من الجنسين في البيئات الغربية المغايرة تمامًا لبيئتنا. إنما لا يخفى حرص وزارة التعليم على المبتعثين كما عوائلهم وذويهم، على سلامتهم وإتمام دراستهم بنجاح وتميز، لكن تقدير الله - عز وجل - لا يعلمه إلا هو، وما على الإنسان إلا الأخذ بالأسباب، ومن ثم التوكل عليه سبحانه. والتغرب له جوانب إيجابية عظيمة إذا نظرنا له كفرصة لاستخراج الطاقات الكامنة والقدرات الخاملة. وهذه نظرة إنسانية عامة، وقديمة قدم التحرك البشري والهجرات والأسفار عبر التاريخ. ومسألة قوة الالتزام الروحي والديني ومراعاة الحلال والحرام تتضح عندما يحل المسلم في بيئة غير إسلامية، وهذا معلوم لكل عاقل. ثم إن الطلبة والطالبات السعوديين - ولله الحمد - أثبت الكثيرون منهم تفوقهم علميًّا، ومثلوا بلدهم بصورة تدعو للفخر، بل إن الجامعات هناك ووكالة ناسا ومراكز الأبحاث تتسابق لاستقطاب المميزين منهم.
قبل أيام لفتت الطالبة المبتعثة إلى السويد يارا عثمان أنظار وانتباه المارة وعابري الطريق وكذلك الملايين عبر وسائل التواصل والإنترنت وبعض القنوات، حين وقفت بكل إباء وبصورة متحضرة، بل أقول بكل جرأة وشجاعة، بالنظر إلى ما يمر به كل مسلم واعٍ بإسلامه حين يكون موجودًا في دولة أوروبية في هذا التوقيت بالذات. وقفت هذه الفتاة ممسكة بلوحة مكتوب عليها (كوني مسلمة فهذا يجعلني...)، في خطوة بسيطة لكنها استفتاء مفتوح للناس وعابري الطريق ممن لن يجاملوا، وليسوا مضطرين لذلك، وهي ممسكة بالقلم لتناوله لكل من يود أن يكتب تعليقًا يكمل به تلك الجملة. جاء من كتب لها (مضطهدة)، و(إرهابية)، و(متخلفة)، وغيرها مما هو راسخ لدى الكثيرين من الغربيين، ومنهم السويديون، لكن كانت المفاجأة أن أتت بعد ذلك الكتابات التي تمتدح يارا ودينها مثل (محترمة) و(شجاعة) و(خلوقة)، وكثير من الصفات التي كتبها عابرو الطريق، التي تثني على يارا ودينها وحجابها. والمقطع موجود على وسائل التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية. يارا عثمان التي لم تتجاوز بعد عقدها الثاني من العمر صنعت بادرة بسيطة جدًّا فعلاً، لكن تأثيرها عظيم جدًّا، ليس في الجمهور السويدي فحسب، بل في أبناء دينها وبلدها، ممن هم بحاجة إلى هزة نفسية، تنبههم بأنهم أصحاب حق، وأن الإرهاب تهمة لن ينجح من يحاول إلصاقها بهم، وإن نجح بعض الوقت فلن يدوم هذا النجاح، أو نجح في أمكنة فلن ينجح في كل مكان. استطاعت هذه الفتاة على أنها مبتعثة لتدرس وتتخصص، ولتعود في خدمة مجتمعها وبلدها، لكن صدق انتمائها لدينها وحضارتها الإسلامية وبلدها الكريم حرك فيها هذه النخوة عبر هذا الموقف المشرف حقيقة؛ فخدمت دينها وحضارتها ووطنها خدمة جليلة بما توافر لها من إمكانات، حتى أن بعض العابرات احتضنها، وهذا مؤثر لمن يشاهده. إن من يحاول أن يطفئ نور هذا الدين وحضارته التي تقوم على السلام بين أبنائه وباقي أبناء البشر فلا بد أن يندحر، ويُتمَّ الله نوره. وما قامت به الطالبة يارا عثمان إلا مثال، وهو ما أثلج الصدر. وكم كنا بحاجة لمشاهدة مثل هذه المبادرات العظيمة؛ لأن الإحباط قد تمكّن من كثيرين منا بما نشهده من حروب وقتل باسم الإسلام، والإسلام من ذلك براء. لقد استحقت يارا أن تكون سفيرة لحضارتها كما لبلدها؛ لأن كل من يتغرب يجدر به أن يكون سفيرًا لبلده. والمقصود بذلك العاقل والواعي من الناس، وإلا فلكل أمة جهالا، وأولئك لا اعتماد عليهم. وفق الله يارا، ولها الشكر والإكبار من الأعماق، ولكل الطلبة المبتعثين الممثلين لحضارتهم وبلادهم أرقى تمثيل كمثل هذا التمثيل، وحفظ الله هذه البلاد، وأيدها بنصره، ودمتم في رعاية المولى القدير.