عبدالعزيز السماري
تربينا منذ الصغر على نظرية المؤامرة، وأنَّ هناك مؤامرة كبرى ضد الإسلام، وأنَّ الأعداء يعملون ليلاً ونهاراً على تشويه صورة الدين الحنيف وقيمه الحضاريه، ثم إظهاره رمزاً للتخلف والجمود والعنف، ومن خلال تلك النافذة أتذكر جيداً شخصية الشيخ عبدالرحمن الدوسري - رحمه الله - والذي عُرف بتخصصه في الماسونية..
كان - رحمه الله - يحذِّر منها في كل محفل وموعظة يلقيها في فعاليات المجتمع، ويحمِّلها فرقة الأمة وفسادها، وكان له كتاب شهير باسم الماسونية، وقد عُرف عن الشيخ جرأته في قول ما يؤمن به، وكان له موقف مشهور من القومية العربية، وكانت وفاته في عام 1979 ميلادية، أي قبل عام من التحول التاريخي في الفكر الديني في المنطقة.
كنت آمل أن عاش الشيخ - رحمه الله - وشهد ما يحدث من أبناء المسلمين، وكيف تحولت المؤامرة من الخارج إلى الداخل، فالتفجيرات التي تتطاير في كل مكان خلفها مسلمون اختاروا التطرف والتشدد منهجاً لهم، وبحسب نظرية المؤامرة التي في عقولنا ربما حققت الماسونية أهدافها من خلال سواعد وعقول أبناء المسلمين، بعدما فشلت في مساعيها في السابق.
فقد قام بعض أبناء المسلمين بالمهمة، وأنجزوها على أكمل وجه، لتشويه صورة الدين العظيم في العالم، وإظهاره كمرجعية للتطرف والدموية والقتل العشوائي، ولو اجتمعت أعداء الأمة للكيد بالأمة لما وجدوا خيراً من هؤلاء البسطاء للقيام بالمهمة، والذين يدخلون - بحسب رأيي - في تعريف الضحايا، والسذج الذين تشربوا بالفكر الشديد العدائية لما حوله من أفكار ومعارف وثقافات..
تعد الجالية المسلمة في بلجيكا الأكبر في أوروبا، والأكثر تمتعاً بحقوقها المدنية والدينية، فقد شهد عام 1974 اعتراف الحكومة البلجيكية بالإسلام كدين رسمي مما نتج عنه إدخال مادة التربية الإسلامية ضمن البرامج المدرسية لأبناء الجالية المسلمة، فضلاً عن صرف الدولة رواتب الأئمة وتحمل بعض من نفقات المساجد.
لم يكن خلف التفجير الإرهابي منظمات غربية تندرج تحت فصل المؤامرة ضد المسلمين، فقد نفذها مسلمون وُلدوا في بلجيكا، وتربوا هناك، ولكنهم لم يتقبلوا فكرة التعايش مع الآخرين، فكان التفجير عنواناً لحالة الارتباك والقلق التي تعاني منها بعض العقول المسلمة.
قد يكون هناك مؤامرات في مكان ما، وقد تكون هناك أيضاً إستراتيجيات غربية للسيطرة على ثروات الشعوب المتخلفة، ولكن تظل المؤامرة الأكبر تأتي من الداخل العربي والمسلم، ومن عقول اختارت أن تقتل من أجل أن تحكم وتسيطر، وإن كان ثمن ذلك صورة الدين الحنيف وقيمه العليا، فقد قدموا خدمة مجانية للمتآمرين علينا في المجهول، وأصبحنا متهمين حتى يثبت العكس.
بأفعالهم هذه شوهوا المعاني العظيمة لمكارم الأخلاق التي تعلمناه منذ الصغر، فقد قلبوا الطاولة في وجوهنا قبل الأعداء، وذلك عندما أظهروا وجهاً قبيحاً ومشوهاً على أنهم يمثلون الدين، فخسرنا كثيراً، وأصبحنا نحارب عقولنا، ونحاكم تاريحنا الذي أنجب أمثال هؤلاء.
من أجل الوصول إلى تصور عما يحدث، علينا أن نتوقف عن تحميل الخارج المجهول لأزماتنا السياسية والثقافية، وأن ندرك قبل فوات الأوان أن المؤامرة موجودة في عقولنا، وأن ظاهرة العداء للمختلف أياً كان، نحن صنعناها بخطابنا الديني المتطرف، والذي يكاد يلغي الآخر، بل يحكم عليه بالإلغاء، ولو كان أقرب الناس وأكثرهم تعايشاً معنا في المجتمع.
لا نحتاج إلى التفتيش عن الإرهاب في المخابئ والأنفاق، فمن خلال مراقبة سريعة لإعلام التواصل الاجتماعي سندرك أن داعش تعيش في كثير من العقول، ولو كانت تبدو شكلاً أكثر تسامحاً، ويتضح ذلك من آرائهم الشديدة العداء للذين يخالفونهم في الرأي، وقد تصل إلى درجة الدعاء عليهم وعدم الترحم على موتاهم.
شئنا أم أبينا نحن أمام واقع متفجر، ويكاد يعصف بالمكتسبات الوطنية في الأمة، والسبب عدم وضع تصور أمني عام عن الإرهاب وأفكاره وجذوره، وإذا استمر وضع الهدنة مع جذور الفكر كما هو الآن ستدفع الأوطان الثمن غالياً في المستقبل..