عبدالعزيز السماري
أصبحت ظاهرة التكفير تهدد الأمن الوطني للمجتمعات المسالمة، ولم تعد حكماً قرآنياً ينال فاعله العقاب الشديد في يوم الحساب، ولكن تحول إلى سلاح سياسي في البدء، ثم أصبح وسيلة لرفع غطاء الشرعية عن الدول، ثم صار خطاباً لإثارة العنف في المجتمعات، ثم تحول إلى سلاح دموي مجرد من غمده، يغدر به الإنسان أخاه وابن عمه وصديقه..
مسألة التكفير قصة يحكيها تاريخنا القديم بمرارة، فقد كانت خلف الكوارث الاجتماعية والسياسية، وخلفت الدمار، ولازالت تقدم نفس النتائج، كما يحكيها أيضاً تاريخنا الحديث والمعاصر وتكشفها بألم وحسرة الحروب الطائفية التي تجري في الشرق العربي.
يكاد المجتمع العربي أن يختنق موتاً بسببها، وبسبب إطلاقها بتلك الصورة المجردة، والتي جعلت من شباب في مقتبل العمر يتركون حياتهم وينفرون من مستقبلهم لينفذوا أحكام الإعدام في أقاربهم المقربين، في سابقة لم تحدث في زمن الدعوة المحمدية ضد كفار قريش، ولم يفعلها حتى الأزاراقه الخوارج في زمن تطرفهم وتشددهم في أحكام التكفير.
يضرب خطاب التكفير مشاريع التنمية والتعليم المهني والتحول الاقتصادي، وذلك بقدرته على تحول الطاقات الشابة إلى كائنات مؤدلجة برائحة الدم، وإلى جنود ليس لهم قيمة على رقعة شطرنج الصراع السياسي، وإذا لم يتم إنهاؤها بخطاب ديني معتدل، ستضرب في العمق الاجتماعي وستمزقه شر تمزيق.
لنا أن نتساءل عمن أعاد التكفير إلى حياتنا المعاصرة، وكيف يحدث ذلك في عصر تتسابق فيه الأمم نحو المجد والعليا في مجالات العلم والفضاء والطب والثقافة، ولا يمكن إخراج تلك الأسباب من أربعة عوامل، أولهما خطاب تجهيل المجتمعات العربية في الخطاب القطبي الشهير «جاهلية القرن العشرين»، والذي أصدر حكم الجاهلية الأولى على المجتمعات العربية المعاصرة، وهو الكفر.
وثانيهما كان الثورة الإيرانية الشيعية، والتي قامت للانتقام من الكفرة الخارجين عن النهج الحسيني، ثم تصدير الثورة إلى الدول المجاورة، وكان ثمنها باهظاً في المحيط العربي، فقد استثارت النعرات الطائفية من جديد، وبسببها تحولت العراق والشام إلى ساحة دماء مروعة..
ثالثهما، كان إحياء منهج التكفير السلفي في بدايات الثمانينات، والذي خرج من حصاره وكهفه القديم، ليعيد الخطاب الطائفي والتكفيري إلى الساحة في حراك دفاعي ضد فكرة التوسع الشيعي، وذلك على طريقة داوها بالتي كانت هي الداء، فكان الانفجار المرير وبالاً على العوام والتنمية والاقتصاد.
رابعهما، ما حدث في بداية التسعينيات، عندما أطلق الدكتاتور البعثي صدام حسين حملة الإيمان في العراق، وأصدر من خلالها تعاليم سلفية متشددة، وتحول من خلالها رجال البعث إلى دعاة دين متطرفين، وذلك في توجه سياسي ديني ضد الحراك الشيعي الإيراني، كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية في العراق فيما بعد.
ما يحدث الآن من مآسي في المجتمعات العربية هو نتيجة لإعادة إحياء الماضي الكريه في الذاكرة المسلمة، والتي تعاني من ماض موبوء بالكراهية والدموية والإقصاء بسبب الصراعات السياسية التي اتخذت من الدين لباساً في عصورنا الوسطى.
لنا أن نتساءل عن كيفية الخروج من هذا النفق المظلم، وما هي الخطوات اللازمة تجاه ما يحدث، وحسب قراءتي المتواضعة، يجب عدم الانزلاق سياسياًَ ودينياًَ خلف الخطاب الديني الطائفي، والذي يحاول إثارته بعض رجال الدين غير الثقاة، وأن يتم تجريم الطائفية في الخطاب الديني العام، وذلك من أجل تقديم نموذج مثالي وحي للآخرين في الداخل والخارج.
عند وصم الآخر بالطائفية والكراهية، يفترض التصرف خلاف ذلك، وذلك عبر احترام الأقليات التي تعيش بين الأكثرية، ومراعاة حقوقهم الوطنية، وقد ظهر ذلك فعلياً في الخطاب الرسمي، لكن بعض الدعاة غير المحسوبين يخالفون هذا التوجه، لهذا يجب تجريمهم إن استمروا في ذلك.
في هذه المرحلة وغيرها يجب اعتبار السلم الاجتماعي الوطني خطاً أحمر، لا يسمح لأي كان أن يخترقه، ومهما كان قدره عالياً بين جماعته وطائفته، ولهذا السبب يحتاج الوطن إلى وثيقة لنبذ الطائفية والكراهية، والتي ستؤثر إيجاباً على العامة والنخب بمختلف درجاتهم، وستعيد كثيرا من المغرر بهم إلى رشدهم، وقبل ذلك سترفع قيمة الوطنية عالياً في عقولهم، والله المستعان.