عبدالعزيز السماري
لا يمكن أن ننكر حقيقة مفادها أن التطرف هو أحد القراءات المتداولة حالياً للدين الإسلامي، وأن هناك فئات تؤمن أن الدين الإسلامي جاء بالذبح والسبي وإهدار دماء الكفار، كذلك أيضاً توجد قراءات أخرى متعددة في الإرث الإسلامي، وتقدم الدين الحنيف في قراءة مغايرة على أنه دين التسامح والمحبة والإخاء، وهو ما يرفع أكثر من علامة استفهام حول أيهما أقرب للفهم الصحيح.
ما يعيد إثارة مثل هذه الأسئلة هو تلك الانتقائية التي يمارسها بعض الدعاة طوال التاريخ، وذلك في البحث في فهرس النصوص الضخم عن نص يوافق الموقف السياسي أو الدعوي الحاضر، أو لتبرير قتل الأبرياء في المساجد أو الشوارع وإهدار دمائهم، ومن هذه الامثلة ما تداوله دعاة الإرهاب في الدين الإسلامي لتبرير تفجيرهم للأمنين في المساجد في قصة عبدالله بن خطل.
فقد جاء في الأثر أن الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم أهدر دمه بعد فتح مكة، كما ورد عَن أَنسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ , وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: اُقْتُلُوه..
يتعلق المتطرفون بهذا الحديث لتبرير قتل المصلين في المساجد، بينما كان سبب قتله أن بعثه رسول الله عليه أفضل الصلوات والتسليم مُصَّدِّقا، وكان مسلما، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه، فَنَزَل ابن خطل مَنْزِلاً، وأمر المولى أن يذبح له تيسًا، ويصنع له طعاما، فنام واستيقظ، ولم يصنع له شيئا، فعدا عليه، فقتله، ثم ارتد مشركا.
كذلك يعمل دعاة التطرف على تقديم وإشاعة بعض النصوص والروايات التي تبرر الذبح والحرق وتقطيع الرؤوس، ويحاولون دوماً إغفال النصوص التي تشيع ثقافة التسامح بين البشر، ويغفلون قراءات في غاية الأهمية، وهي أن الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم لم يهدر دماء مشركي مكة بعد الفتح إلا لسبب، ولم يحكم عليهم بالقتل لعلة الشرك والكفر، بل أطلقهم ليعيشوا بسلام.
كذلك يتم تغييب قصة زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم في حلقاتهم الدعوية، كأحد أهم صور التسامح في تاريخ الأديان السماوية، وزينب هي كبرى بناته، وتزوجت رضي الله عنها بأبي العاص بن الربيع قبل البعثة، وعندما أرادت قريش من أبي العاص أن يطلًقها كما طلًق أبناء أبي لهب أم كلثوم ورقية، رفض أبو العاص، وظلت معه بنت الرسول صلى الله عليه وسلم معه محسنة صحبتها له في مكة، وهو المشرك بالله.
شارك أبو العاص في معركة بدر ضد المسلمين، وأسر حينها مع أسرى قريش، فلما بعثت قريش فداء أسراها، بعثت زينب رضي الله عنها قلادة أم المؤمنين خديجة إلى الرسول في فداء زوجها المشرك، فأطلق رسول الله سراحه دون مقابل، ولم يقتله، أو ينال منه بسبب شركه وعدم تطليقه لزينب، وقد تعهد بعد العفو عنه، للنبي صلى الله عليه وسلم، بإرسال زينب إليه، فوفى بعهده وأرسلها إليه معززة مكرمة.
وقبل فتح مكة خرج أبو العاص في تجارة لقريش إلى الشام وفي طريق العودة لقيته سرية من سرايا المسلمين فأخذوا قافلته، وهرب حتى إذا جاء الليل، فدخل خفية على زوجته زينب، واستجار بها فأجارته، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر قامت زينب من بين صفوف النساء وصرخت: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع...
فقال النبي صلى الله عليه وسلم.. والذي نفسي بيده ما علمت بشيء حتى سمعت ما سمعتم، وإنه يجير على المسلمين أدناهم، ثم ذهب إليها صلى الله عليه وسلم فقال لها: أي بنية أكرمي مثواه، ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له، ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى السرية الذين أخذوا ماله فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث علمتم، وقد أصبتم له مالا فإن تحسنوا وتردوه، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فَيْءُ الله فأنتم أحق به، قالوا: بل نرده، فردوه كله، ثم ذهب به إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال ماله، ثم قال: يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي شيء..
أتساءل: لماذا يتم تغييب هذه الرواية الرائعة وغيرها من الروايات عن سماحة الدين الحنيف، والتي تعد بالفعل ذروة مكارم الاخلاق التي جاء بها الإسلام، وهي دعوة التسامح الديني، ولماذا تم اختزال الدين الحنيف في روايات مختلَف عليها، و تقدم الدين الحنيف في تلك الصورة الدموية، كما يدعو لها غلاة الدين في هذا العصر،..هل هي البيئة القاسية والمتخلفة ؟، أم هي « السياسة « !.. قاتلها الله،.... الله المستعان