عبدالعزيز السماري
لا يمكن للمرء أن يهرب من واقع الصراع المرير بين دعاة الأصولية وأنصار الدولة المدنية في المجتمعات العربية، فالمشهد يكاد يتفجر من شدة الخلاف بين فئات المجتمع، والموضوع تحول برمته إلى مواجهة على جميع الأصعدة، ووصل الأمر إلى المواجهة بالسلاح في بعض البلدان العربية.
قد أستثني دولة تونس من هذا المشهد، والذي تنازلت فيه الحركة الإسلامية بقيادة الإصلاحي المثقف الغنوشي عن متلازمة الوصاية الدنيوية والدينية، والاعتقاد أن رجل الدين هو الممثل الشرعي لحكم الله على وجه الأرض، والمخول الوحيد بتولي السلطة في الدنيا، وهو ما يُطلق عليه بحكم الكهنوت حسب ثقافة هذا العصر.
ما حدث في مصر، وما يجري في ليبيا يدخل في ذلك، فالإسلاميون كما يطلقون على أنفسهم، يتصرفون بفوقية مطلقة، وكأنهم رجال مرسلون من السماء لحكم الدهماء في الأرض، وتواجه فئات المجتمعات بمختلف تنوعها سلوكهم المتعسف لفرض إرادتهم بالقوة المطلقة بالحذر، وقد لا يختلف عما يفعلونه كثيراً عن زمن القومية العربية في الاستبداد بالناس تحت شعار أمة واحدة ذات رسالة خالدة.
الفارق أنّ تيار الإسلام السياسي يرفع شعارات متعالية ومقدسة، ويعتقد أنه مخول بالحكم والاستبداد بالأمر من التيارات الأخرى، ويقدمون من خلالها رسائل للآخرين فحواها أنهم وحدهم الإخوة المسلمون، أما غيرهم فأخوان الشياطين، وفي ذلك إعادة برمجة لمرحلة الدعوة الإسلامية في زمن النبوة، فهم رجال الدين المرسلون، والمجتمع العربي قريش التي كفرت بنبوتهم.
في المجتمع السعودي لا يمكن تجاوز ما يحدث بعفوية، فالخطاب الصحوي يقدم خطاباً يتسم بالعدوانية لمختلف الفعاليات الاجتماعية التي تختلف معهم في المنهج والموضوع، ويبدو ذلك في هجومهم المتواصل على الإعلام والمثقفين والفنانين والأندية الأدبية، وكل من لا يتفق مع رؤيتهم الأحادية، ويساهم ذلك في تحريض أتباعهم على الهجوم المتواصل على المؤسسات الإعلامية ومنهجها الثقافي.
كما يواجه الذين يمارسون النقد الموضوعي لظواهر الصحوة ونجومها حملة عنيفة، قد تصل إلى التجريح والتسفيه، والهجوم الشخصي، وكأنّ مكارم الأخلاق قد تم احتكارها بالفعل في دوائر مغلقة بينهم، وهم بذلك ينسفون أهم مبدأ في الاستقرار المجتمعي، وهو احترام الاختلاف بين فئات المجتمع..
هم يكفرون بالاختلاف والتنوع جملة وتفصيلاً، ولا يقيمون لهما وزناً، ويظهر ذلك في خطابهم الأحادي العنيف، وفي تبجيل وتقديس مشايخهم ونجومهم، وفي جعلهم فوق النقد، وفي ذلك تأسيس ممنهج للأحادية المطلقة، وتقديم مبكر للنهج التعسفي الذي يروجون له في حال وصولهم لمآربهم السياسية.
لا يمكن أن يؤدي النهج الأحادي المتعسف إلا إلى دوائر العنف والإرهاب، وما نعانيه من تفجيرات وعنف هو نتيجة للخطاب الصحوي المتسلط والنرجسي، وما يجري في ليبيا ومصر هو مقدمة لما قد يجري في البلاد الأخرى، ويدرك الجميع أن الأمن والرخاء الوطني وسطوة الخطاب الديني الصحوي لا يمكن أن يلتقيا في خط واحد، فالأوطان تقوم على حق الاختلاف بين فئات المجتمع، وقبل ذلك تقديم مصالح الأوطان على الأهداف المؤدلجة والمسكوت عنها للفئات.
أحياناً أتساءل عمّا يريد منا هؤلاء؟، هل يريدون أن نكون أتباعاً لهم؟ ندين لهم بالطاعة صاغرين، ثم نلتحق بركابهم التي تشد من حين إلى آخر للجهاد في بلاد الكفار، أو نلتزم الصمت تجاه ممارساتهم وخطابهم الفوقي والعنيف ضد أطياف المجتمع التي تختلف معهم.
أيها السادة، ما يحدث في بلاد العرب هو أقرب لحالة الحرب الأهلية بين الذين اختاروا أن يعيشوا في الماضي، ولم يكتفوا بذلك، ولكن يريدون أن يرغموا الجميع أن يعيشوا معهم في ذلك الزمن، أو يُنفوا من الأرض، وبين الذين يؤمنون بحرية الاختيار، وأنّ التنوع والاختلاف في المجتمعات من ضروريات الحياة، فما بالك بالوطن، وأن الدين سيظل رغم أنوفهم حقاً للجميع، ولا يمكن احتكار خطابه من قِبل فئة أو جماعة محددة، والله المستعان.