عبدالله بن محمد السعوي
من الجمل التاريخية الخالدة والتي تؤسس - إبان استصحابها - لبنية ذهنية ذات توجه فقهي مرن تلك المقولة الشافعية والتي تكتب بماءالذهب: «قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب» فالشافعي هنا لا يتعامل مع الحقيقة الفقهية وكما لوكانت محسومة لصالح رؤيته الخاصة,
لم يتعامل معها وكأنها تبدأ منه وتنتهي إليه, وإنما تعامل معها من خلال أفق فقهي واسع, حيث يتبنى رؤيته وفي المقابل يضع مساحة احتمالية تتجاوز عقابيل التخندق المذهبي وتمنح قدراً من الاعتبار للرأي المختلف. تلك العبارة للإمام (الشافعي) تؤكد لنا أن الأصل في الاختلاف «السائغ» هو أنّ الترجيح فيه يكون ظنياً وهو الأمر الذي يؤكده (أبوبكرالباقلاني) ومن تبعه من الأصوليين حينما قرروا أن «الفقه من باب الظنون» وإن كان (ابن تيمية) وجملة من الأصوليين لديهم قدر من التحفظ على تلك العبارة, فابن تيمية كما هو معروف لا يوافق عليها بإطلاق وإنما ينحو منحى التفصيل مؤكداً أن القطع والظن ليس وصفاً يتعلق بذات المسائل بقدر ما هو وصف يتجه إلى ذات الناظر في تلك المسائل.
وفي هذا السياق وفي موضوع التعاطي مع المخالف لابد من الإشارة إلى موقف «إمام دارالهجرة» أو ما يسميه (الحافظ العراقي) في ألفيته بـ»نجم السنن» الإمام (مالك) - رحمه الله - حينما عرض عليه (أبوجعفر المنصور) وفي حادثة تاريخية مدونة ومشهودة عرض عليه أن يعمم كتابه «الموطأ» على الأمصار وأن يحمل الجماهير على استهلاكه والارتهان لمنطقه وعدم مبارحة فقهياته وعلى الرغم مما يترتب على هذا العرض من مكتسبات شخصية ومن حضور تبجيلي ومكانة ترميزية عالية وعلى الرغم مما يمنحه هذا المرسوم السلطاني من اكتساح للساحة وتقوّي على الخصوم وتفوقٍ على الأقران و»ابريستيج» مجتمعي يسيل له لعاب الكثيرين ممن يتشبثون بالنفوذ الرمزي بل ويتفانون في توارثه - حتى ولو ادعاء! - على المستوى الأسري رغم كل هذا إلا أن الإمام مالك لم يستحسن تلك الفكرة التي قد يراها غيره فرصة سانحة يفترض اقتناصها بل نهى المنصورعن ذلك معللاًَ بأن:» الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به من اختلاف الناس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم وإنّ ردّهم عما اعتقدوه شديد فدع الناس وما هم عليه وما اختاركل أهل بلد منهم لأنفسهم» انظر(طبقات ابن سعد 7/573)
إن تهميش الاتجاه الفقهي المغاير فضلاً عن محاصرته وحجبه ومصادرة حقه في الظهور- ولو كأحد جزئيات التكوين العام - أمر سينعكس سلباً على الفاعلية الفقهية التي بالتأكيد سيخفت ألقها وسيضمر تألقها وستتآكل جدليتها وهذا يعني وبكل وضوح تكريس الأحادية وفرضها كمعطى وكطريقة تفكير أساسية تأخذ حيزها في صلب البنية الثقافية التي بالتالي سيتشكل منطقها الداخلي على ضوء هذه المقتضيات التي يفرضها النمط الأحادي البالغ الحدية!