عبدالله بن محمد السعوي
نتيجة لملابسات متعددة - تعز على الحصر- كثيرا ما يحضرالأشخاص على حساب المنهج وعلى نحو يبدو جراءة الموقف الفقهي موقفا متلبسا بالموقف الرغبوي أكثر منه كقراءة تحليلية معرفية تدور في فلك الدلالة وتستلهم مقتضياتها.
كثير من الحقائق تنتقل عن طريق الأشخاص حتى الحقائق الغيبية مثلا هي حقائق ينقلها لنا الرسل والأنبياء المعصومون عليهم الصلاة و السلام، ومن هنا، وبما أن الحقائق تصلنا عن طريق الأشخاص، فهذا يعني أن كثيرا من تلك الحقائق هي ذات طابع هلامي وهي مؤهلة للتشكل بتلوينات عدة من قِبل أولئك الأشخاص الذين يُسوّقون لها ويسعون لمنحها أكبرقدر ممكن من الانتشار والرواج، بل والتلبس أحيانا بطابع وصائي لافت وقيمة الحقيقة تتجلى كثيرا في تفسيرها، وفي طبيعة تأويلها وبيان طبيعة العلاقة التي تربطها بغيرها من الحقائق وهذا يقود بطبيعة الحال إلى امتزاج الأشخاص بالافكار أحيانا إلى درجة عدم وضوح الخط الفاصل بين الشخصية والفكرة تلك الفكرة التي كثيرا ما تهن فاعليتها، وينحسر دورها المركزي لصالح الأشخاص، وهكذا تضعف الحقيقة وتبدو على مستوى ملحوظ من الضآلة والانحسار وتخفت معالمها، وبشكل يقلل من فرص رؤيتها بالعين المجردة!
إن تلك الحقيقة - أي امتزاج الحقائق بالشخوص - وعاها الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولذا كانوا على غاية من الحذر من الدوران في فلك الخصوصيات النفسية والظرفية,كانوا على غاية من الاحتراز من الوقوع في فخ التداخل بين الرؤى ذات الطابع الشخصي وبين الحقائق بفضائها النظري وامتداداتها المنهجية فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرر أن متبنياته ليست في كثير منها إلا ضربا من الاجتهادات الفردية بل وغيرالملزمة أحيانا، ولهذا يقول ـ وقدكتب كاتب له بين يديه: هذا ما أرى الله عمر- : لا، امحه واكتب: هذا ما رأى عمر.
ومثله ابن مسعود يسأل عن مسألة المفوضة شهرا فيقول بعد الشهر:أقول فيه برأيي فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان.والله بريء مما أقول ورسوله (إغاثة اللهفان1/193)
إننا كثيرا مانؤكد - وعلى صعيدالإطارالنظري فحسب! - أن المنهج فوق الأشخاص لكننا في سياق الممارسة الفعلية نتنكرلتلك الحقيقة فنقدم الأشخاص بل وقد يصل بنا الغلو في الأشخاص إلى درجة استعظام صدورالخطأ من بعض الرموز، أو قد نندهش لعدم إلمامهم ببعض القضايا، فلانستسيغ عبارة (لاأدري) من عالم نُجله وعلى نحو يعيد للأذهان قصة ذلك الرجل الذي سأل ثعلبا النحوي الشهير عن مسألة فقال: لا أدري، فقال الرجل: مثلك يقول: لاأدري؟! فقال ثعلب: لو أن لأمك عدد مالا أدريه بعرا لاستغنت! (إنباه الرواة 1/141)
كثيراً ما نؤكد أولوية المنهج، وأن الحقائق فوق الأشخاص لكن عند التجسيد تعزب تلك الفكرة عن الوعي وعلى نحو يوسع الفجوة بين المبدأ والتطبيق، ولذا نجد ذواتنا على درجة عالية من الحساسية - وأحيانا التجاهل والنفي- تجاه كل اختيار لا يتقاطع بالضرورة مع اختيارات الرمزالذي نصدرعن رؤاه وعلى نحو يلغي التنوع ويكرس لضرب من الاحتكارالمعرفي الذي طالما تنادينا - نظريا- بضرورة التجافي عن إرهاصاته !