عبدالله بن محمد السعوي
2 - من أبرز تجليات الإنصاف التحرر من العصبية المذهبية واستدبار أدبيات التقليد الأعمى التي تصادر تصورات الفقيه وتحد من نزعته الاستقلالية وعلى نحو تتقلص لديه مساحات الحركة ومن ثم تتضاءل معالم فرديته وبطريقة لا تقود إلا إلى التقولب الرافض لمبدأ التعددية والنافر من فكرة التنوع كما يعبر عنه ذلك الشافعي الذي أكد وبشكل قاطع أنه «يجب على كافة المسلمين وعامة المؤمنين شرقاً وغرباً بُعداً وقرباً, انتحال مذهب الشافعي «انظر» الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي 3/206».
ومثل هذا ذلك الحنبلي الذي يردد:
أنا حنبلي ما حييت وإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
«سير أعلام النبلاء 18/506»
ليس ثمة مشكلة في الانتساب للمذهب - أي مذهب - كحالة انتماء فقهي مجرد وإنما الإشكالية حينما يتحول هذا الانتماء إلى عنصر قهري ضاغط يقود باتجاه التعصب والتخندق الذي يشوه الانتماء الأساسي للأمة.
إن احترام الحقيقة من جهة وتوقير الأئمة من جهة أخرى أمر يفرض على الفقيه التلبس بقدر عال من التجرد والخروج من شرنقة التقليد فعدم التقليد للعلماء ليس حطاً من شأنهم ولا تقليلاً من قيمتهم ولا خفضاً لمقاماتهم، بل هو سير على النهج الذي اختطوه حيث تواردت أدبياتهم على التحذير من التقليد والتعلق المرضي بالأشخاص.
إن المنهج فوق الأشخاص تلك حقيقة تغيب عن كثير من الذهنيات حيث - ولملابسات متنوعة - يمنحون العصمة لغير المعصوم وينصرون رأيا لا لعمقه الاستنباطي، وإنما فقط لأنه قول فلان فهم يعرفون الحق بالرجال حيث المعادلة هنا مقلوبة، ولذا يجنحون إلى تأويل المنهج بل والتعسف في القراءة التأويلية وتحميل الأدلة ما لا تحتمل كل هذا فقط لحماية قول ما والعمل على تنامي قيمته الرمزية والمحافظة على ما يحظى به من ضروب الهالة مع أنه قد يكون عند التحقيق قد لا يتوفر - في هذا السياق تحديداً - على موجبات الصوابية.
إن التخفف من أعباء المذهبية والتوازن في هذا النطاق هو الذي يولد منقبة الإنصاف والانتصاف للحقيقة وللقراءة الفقهية المدللة وإيثار الحق حتى على الذات وعلى ما يرتبط بها أو يدور في إطارها معرفياً وسيكولوجياً.