د. محمد بن يحيى الفال
قديماً اشتهر اليمن بمقولة اليمن السعيد لازدهاره زمن الحضارات العربية القديمة وارتبط رخاؤه بسد مأرب الذي كان القوة الدافعة من وراء الانتعاش الاقتصادي الذي شهده اليمن في تلك الحقبة من تاريخه. كذلك فقد عُرف عن اليمنيين حبهم ومهاراتهم في العمل التجاري الذي نرى حالياً آثاره بوضوح وجلاء في كل من السواحل الشرقية لقارة إفريقيا والجزر الإندونيسية التي حملوا لهما الإسلام وكانوا من وراء
اعتناق شعوب هذه الأمصار له وليدحضوا عملياً مقولة بعض المستشرقين بأن الإسلام لم ينتشر إلا بقوة السيف. وفي عصرنا الحديث ابتلي اليمن وكما هو الحال في عدد من الدول العربية بحكومات فاسدة، ولعل إشكالية الفساد فيه تمثل مثالاً نموذجياً لما يسببه الفساد من تقويض لكل برامج التنمية. وخلال ترؤس المخلوع على عبدالله صالح الذي استمر لأكثر من ثلاثة عقود حول فيها أغلب المساعدات التي كان يحصل عليها اليمن من مساعدات دولية والتي جاء مجملها من دول الخليج العربية إلى حسابه الخاص، تاركاً اليمن وأهله لمعاناة شظف العيش بثلاثية الفقر المتمثلة في الجوع والجهل والمرض، وليستفحل الأمر باليمنيين ويسوء لمرحلة حذرت فيه الأمم المتحدة بأن اليمن أضحى مرشحاً قوياً للانضمام إلى قائمة الدول الفاشلة. كذلك فقد أشارت تقارير الأمم المتحدة الموثقة بأن ثروة المخلوع صالح وعائلته بلغت أكثر من ستين مليار دولار سخرها لخلق دولة داخل دولة وهي إستراتيجية منظريهم في طهران، جنود دولة يدينون له بالولاء عوضاً عن اليمن الذين يمثلون قواته المسلحة. وكما هو الحال مع تسخيره للقوات اليمنية المسلحة لأغراضه الشخصية فقد سخر كل مقومات الدولة اليمنية من أجل تشبثه بالسلطة مهما كان الثمن حتى ولو كان ذلك تحالفه المخزي والمشين مع عصابة الحوثي الإجرامية والتي خاضت الدولة اليمنية ضدها ست حروب كانت نتيجتها المزيد والمزيد من المعاناة لشعب اليمن المغلوب على أمره.
والمتابع للشأن اليمني يرى بوضوح بأن بدايات مخطط عصابة الحوثي للسيطرة على اليمن بدأت بتسخير للملف الاقتصادي من أجل تحقيق أهدافهم المرسومة لهم من قبل سادتهم في طهران، فكانت أول شرارات جريمتهم في المظاهرات العنيفة التي حرضوا عليها العديد من مكونات الشعب اليمني، وذلك للاحتجاج على رفع الحكومة أسعار وقود السيارات في شهر أغسطس 2014 والذي كان سيوفر للخزينة اليمنية المنهكة أكثر من أربعة مليارات دولار سنوياً، هي في أمس الحاجة لها لضخها في برامج الغذاء والرعاية الصحية، وهما أمران يستفيد منهما شريحة واسعة من الشعب اليمني. ولعله من نافلة القول التأكيد بأن هناك عاملاً اقتصادياً كان هو المحرك الأساسي من وراء ما يشهده اليمن من أحداث، وعليه فإن علاج هذا العامل الاقتصادي سوف يصب في المحصلة النهائية في حل مشكلات اليمن الاقتصادية والتي ستكون نتيجتها المباشرة رفع المعاناة الاقتصادية التي يتعرض لها اليمنيون، كذلك فإن القيمة المضافة لها هو قطع الطريق على عصابة الحوثي وصالح ومن ورائهم سادتهم الذين ارتضوهم في طهران ولكل عصابة من أمثالهم مستقبلاً في استغلال الورقة الاقتصادية كورقة ضغط في المشهد السياسي اليمني.
لقد أثبتت الكثير من الوقائع والقرائن بأن القضاء على مشكلات اليمن الاقتصادية هو السبيل الأمثل والعلاج الصحيح لكل مشكلاته، وكذلك فلقد أثبتت التجارب أن المساعدات والهبات التي تقدم لليمن من دول العالم وخاصة من أشقائه في دول الخليج العربي ليست إلا مسكنات ومهدئات لمشكلته الاقتصادية ولا تقدم حلولاً جذرية لمشكلات اليمن الاقتصادية، وبأنه آن الأوان لوضع حلول اقتصادية عملية قابلة للتطبيق على أرض الواقع لمشكلات اليمن الاقتصادية. وتنطلق آوليات ومخرجات الحلول لمشكلات اليمن الاقتصادية من حقيقة لا جدال فيها تتمثل بأنه ومن منطلق جيوسياسي دولة محدودة الموارد الطبيعة وتحيط به دول أنعم الله عليها بثروات ضخمة من النفط والغاز. ويشابه وضع اليمن الجيوسياسي في منطقة الجزيرة العربية والخليج العربي وضع المكسيك الجيوسياسي بمواردها المتواضعة في أمريكا الشمالية، حيث الولايات المتحدة وكندا دولتان صناعيتان وبموارد طبيعية ضخمة. ولقد فطنت هذه الدول لحتمية الوصول إلى صيغة للتعاون الاقتصادي بينهم يصب في النهاية للصالح العام يتجاوز الفروقات الكبيرة بين إمكانات وموارد الولايات المتحدة وكندا من جهة والمكسيك من جهة أخرى، وكانت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية.
(North American Free Trade Agreement)، والمعروفة اختصاراً بـ«نافتا» (NAFTA )، والتي جاءت بعد محدثات طويلة ومضنية بين الدول الموقعة عليها، وهي الولايات المتحدة كندا والمكسيك. وبدأت محادثات الاتفاقية في عهد إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب وليتم التوقيع عليها في حقبة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ولتصبح سارية المفعول في الأول من يناير 1994 وبهدف أساسي يتمثل في إلغاء كافة العوائق التجارية بين الدول الموقعة عليها مع تحرير كامل للتجارة بينهم. وتبين الدراسات التي أجريت عن الاتفاقية بأنها ساعدت وبشكل كبير على تعزيز التجارة بين دولها ومن ذلك ما أكدته غرفة التجارة الأمريكية بارتفاع ملاحظ في التجارة بين الولايات المتحدة من جهة وكندا والمكسيك من جهة أخرى من ما مجموعه 337 بليون دولار في العام 1993 إلى تريلون ومائتي بليون دولار عام 2011. ونهضت الاتفاقية وطبقاً لمجلس الأعمال الأمريكي بزيادة كبيرة في تحسين مداخيل أكثر من 140 ألف من مؤسسات الأعمال الأمريكية الصغيرة والمتوسطة الحجم، واستفادت كل من كندا والمكسيك من الاتفاقية في زيادة كبيرة في تصدير مواردهم الزراعية للولايات المتحدة. كذلك كان للاتفاقية دور مهم ومحوري في تحديث المكسيك لبنيتها التحتية في مجال المواصلات والاتصالات. ومع أن الدراسات المتعلقة باتفاقية «نافتا» أشارت إلى وجود عجز تجاري في مؤشرات التبادل التجاري والخدمي بين دولها إلا أن هذا العجز يتقلص مع الوقت. ولعل الشئون الاقتصادية بالأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية تجد مناسبة تطبيق اتفاقية نافاتا على علاقة دول المجلس الاقتصادية مع اليمن، أو على أقل حال دراسة ذلك ومناقشته لمعرفة إمكانية تطبيقه عملياً مع وضع «نافتا» كنموذج استرشادي.
قدمت المملكة وأشقاؤها في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لليمن المبادرة الخليجية المدعومة دولياً لإنقاذ اليمن من صراعات الحرب الأهلية، وقدمت عمليتي عاصفة الحزم وإعادة الأمل من أجل تخفيف مآسي الحرب على المدنيين اليمنيين، وتسعى نحو كل ما من شأنه من دعم اليمن في كل النواحي بما فيها الاقتصادية. وبالمقابل قدمت وما زالت عصابة الحوثي وصالح وبدعم من سادتهم في طهران المزيد من العذاب والمعاناة لشعب اليمن مع خسة لا نظير لها لم يكن يتوقعها أشد المتشائمين بقيامهم في محاصرة أبناء جلدتهم ومنع وصول المساعدات الإغاثية لهم مع قصف للمدن الآهلة بالسكان لم تستثن حتى المستشفيات.