د. محمد بن يحيى الفال
كما أن الجميع يتفقون أن هناك وفي عالم التجارة والأعمال بضائع أصلية وأخرى مقلدة، فلعل بعض هذا الجميع يتفق أن هناك حروبا خفية ومداولات في عالم السياسة بعضها حقيقي والكثير منها خصوصاً في عالم السياسة الخفي والغامض ليس إلا مناورات وألاعيب الغرض منها..
.. هو إرسال رسائل للتأثير وتضليل الرأي العام بخصوص العديد من القضايا والصراعات التي تجتاح العالم بين الفينة والأخرى. ولعل المصطلح الذي أُطلِق عليه الحرب الباردة من أهم التطبيقات العملية له ما يدور في عالم السياسة، ومصطلح الحرب الباردة، والذي يعني باختصار غير مخل الصراع على النفوذ الذي بدأ في الأربعينات وحتى بداية التسعينات الميلادية من القرن المنصرم بين قطبي المكون الدولي وقتها والذي كان يتمثل في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المعسكر الغربي، وتمخض هذا التحالف بإنشاء منظومة حلف شمال المحيط الأطلسي المعروف اختصارا بحلف الناتو ومقره عاصمة بلجيكا، بروكسل، والقطب الآخر كان يتمثل في اتحاد الجمهوريات السوفيتية والذي تمخض عنه حلف وارسو والذي ضم روسيا والجمهوريات المنطوية تحت لوائها، إضافة لدول أوربا الشرقية. وكان أول من روج لمصطلح الحرب الباردة بالمعني المتعارف عليه حالياً الصحفي والسياسي الأمريكي ذاع الصيت والتر ليبمان (Walter Lippmann) والذي أضحي لاحقاً أشهر من كتب عن الرأي العام وطرق تشكيله.
وشهدت الحرب الباردة في نسختها الأصلية حوادث مفصلية في الصراع بين الشرق والغرب ولعل أهمهما وحسب الترتيب الزمني كل من أزمة الصواريخ الكوبية، الغزو السوفيتي لأفغانستان، مظاهرات نقابات العمال البولندية وأخيراً سقوط جدار برلين.
كادت أزمة الصواريخ الكوبية أن تؤدي بالعالم إلى حرب نووية بعد فشل الغزو الأمريكي لكوبا والمعروف بعملية خليج الخنازير والتي أعقبها نشر الاتحاد السوفيتي صواريخ بالستية متوسطة المدى في كوبا وبقدرات نووية رداً على نشر الولايات المتحدة لصواريخ نووية في عدد من الدول الأوربية كبريطانيا وايطاليا لها القدرة للوصول لموسكو. وهدد الرئيس الأمريكي وقتها جون كيندي باستعمال القوة النووية لتدمير الصواريخ إذا لم يقم الاتحاد السوفيتي بتفكيكها وإزالتها، وحبس العالم أنفاسه في شهر أكتوبر من العام 1962م ، وكان على رمية حجر من اندلاع حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ليتمكن في النهاية الأمين العام للأمم المتحدة البورمي يوثانت من عقد صفقة بين القطبين يتعهد بها الاتحاد السوفيتي بإزالة الصواريخ النووية من كوبا وتتعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا.
وكان الغزو السوفيتي لأفغانستان والذي استمر لمدة عشر سنوات من الفترة بين 1979 وحتي1989، من أشهر أحداث حقبة الحرب الباردة، وكان لمساعدة الولايات المتحدة المباشرة للمجاهدين السبب الرئيس لهزيمة السوفيت، حيث زودت أمريكا المجاهدين بأسلحة متقدمة وبتكنولوجيا عالية الدقة منها صواريخ ستينغر المضادة للطائرات (Stinger) والمحمولة على الأكتاف، والتي جعلت التفوق الجوي للسوفيت عديم الجدوى بوجودها لدي المجاهدين. ولقد أفرز الغزو السوفيتي لأفغانستان العديد من التداعيات السلبية مازالت أفغانستان تدفع فاتورتها وحتى وقتنا الحاضر.
وفي أوائل الثمانينات انشغلت وسائل الإعلام الغربية بشكل يُمكن توصيفه بدخول القوة الناعمة بضراوة في الحرب الباردة، وكانت ساحة المعركة تغطيات وسائل الإعلام الغربية لحركة نقابات العمال البولندية المعروفة بنقابة تكامل (Solidarity)، بمدينة غدانسك معقل رئيس النقابة ليش فاليسا( Lech Walesa)، وانتهت معركة النقابات البولندية مع السلطة الشيوعية الحاكمة بسقوط السلطة وانتخاب فاليسا كأول رئيس منتخب لبولندا بعد الحرب العالمية الثانية.
وكان لما حدث من تغير في بولندا تداعياته المباشرة على كل نقابات المعسكر الشرقي التي كانت تواقة للحرية بعد ردح من التسلط الشيوعي على مقدرات شعوبها.
وجاء تاريخ التاسع من نوفمبر 1989م لينهي ثمانية وعشرين عاماً من الرمزية المادية الفاصلة بين المعسكر الشرقي والغربي، في هذا اليوم من التاريخ سقط حائط برلين (BERLINER MAUER)، وبسقوط حائط برلين كانت كل المؤشرات تؤكد بأن الخلل بين والتفكك أصبح قدراً لا مفر له لمعسكر وارسو. ولتتأكد هذه المؤشرات بتولي ميخائيل جورباتشوف مقاليد السلطة في الاتحاد السوفيتي، وليقدم رؤيته في الحكم من خلال مبادرتيه البريستوريكا الهادفة لإصلاحات اقتصادية، والغلاسنوت الهادفة لتفعيل الشفافية في مسائل الحكم. لم يطل الحال بالرئيس جورباتشوف لتطبيق إصلاحاته وليعقبه الرئيس بوريس يلتسن وليتم الإعلان رسمياً في الخامس والعشرين من ديسمبر 1991 تفكك اتحاد الجمهوريات السوفيتية وإقامة الاتحاد الفيدرالي الروسي، والذي يعد من الناحية الفعلية الوريث لما تبقى من الاتحاد السوفيتي.
ما سبق هو تاريخ مختصر للحرب الباردة في نسختها الأصلية بين قطبي المعسكرين الغربي والشرقي، انتهت بتفكك الأخير وببقاء الأول، ولكن أحلام الماضي والحنين إليه لم تكن بعيدة عن من عاش وترعرع في الاتحاد السوفيتي، كما هو حال الرئيس القيصر الروسي فلاديمير بوتين، وهو ابن المخابرات السوفيتية الشهيرة الكي، بي، جي، والتي كانت الجهة المطلعة على كل شاردة وواردة في حياة الشعب السوفيتي بشكل خاص وبما يدور في العالم بشكل عام. عليه لم يتواني قيصر روسيا الجديد بوتين والذي أضحي رمزاً لروسيا الجديدة تتغنى بخصاله جميلات روسيا، بأن يعلن عن مكنوناته الدفينة وحسرته لما حدث للاتحاد السوفيتي حين صرح بالقول بمناسبة الذكرى السنوية الرابعة والعشرين لسقوط جدار برلين، وكان حينها رئيساً لوزراء روسيا بأن انهيار الاتحاد السوفيتي كان أكبر كارثة جيوبولتيكية( الجغرافيا السياسية)، في القرن العشرين. ولمعرفة الأصلي من المقلد فيما قد تصرح أو تلمح به وسائل الإعلام بان هناك حرب باردة جديدة تلوح في الأفق بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وبين روسيا من جهة أخرى، علينا فقط أن نسقط آليات الحرب الباردة في نسختها الأصلية على مشاكل سياسية حلت بالعالم كالأزمة السورية والأزمة في أوكرانيا. ففي سوريا تدخلت روسيا عسكرياً في وقت تواجد تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة الإرهابي( داعش)، وهو أمر كان من الاستحالة بمكان أن يحدث خلال الحرب الباردة السابقة، بل أن الطرفين أصبحا ينسقان طالعاتهما الجوية في سماء سوريا وليشمل هذا التنسيق إسرائيل أيضاَ. وفي أوكرانيا ابتلعت روسيا جزيرة القرم وأججت ودعمت الانفصاليين في معاركهم مع الجيش الأوكراني، وكان رد فعل الولايات المتحدة وحلفائها بعض العقوبات الاقتصادية ضد روسيا ترنح فيها الروبل العملة الروسية لبعض الوقت وليعود لاتزانه لاحقاً. شتان بين الحرب الباردة في الماضي والآن، ما نراه الآن شديد الشبة باتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا عام 1916م والتي قسمت مناطق النفوذ بينهما، ويبدو أن هناك تفاهماً سرياً بين الروس والأمريكيين يتعدى تقاسم النفوذ إلي المشاركة في النفوذ كما نري في سوريا وربما لاحقا في العراق كمرحله ثانية ولمناطق أخري في المنطقة كمراحل في المستقبل القريب وذلك من أجل التفعيل العملي لمخطط الشرق الأوسط الجديد ، وبدا مخاض هذا التعاون يتضح جلياً بوجود القواتلروسية فعلياً على الأراضي السورية وبإعلان واشنطن المفاجئ لإرسال قوات غير قتالية لداخل سوريا. وأعلنت واشنطن بأن الهدف من تواجد هذه القوات الغير قتالية هو التنسيق مع قوات المعارضة السورية المقاتلة المعتدلة، ولعل هذا هو الهدف المعلن ولكن بلغة الاستراتيجيات العسكرية تُسمي مثل هذه القوات بفرق استطلاع لمعرفة وتقدير الوضع العسكري على الأرض قبل الخطوة التالية (Combat Control Divisions). يبدو بأن الوضع في سوريا قد دبر له أمر بليل بين الروس والأمريكيين مع وجود شريكين خفيين لهذا المخطط ظاهرهما العداء وباطنهما التعاون وهما دولة الملالي في طهران ودولة التوسع والاستيطان المستمر في تل أبيب.