د. محمد بن يحيى الفال
قد يكون من العسير أو المستحيل عدم ذكر المملكة عندما يتطرق الحديث للعمل الإِنساني، سواء كان ذاك الحديث يدور رحاه على المستوى المحلي، الإقليمي، أو الدولي. فسجل المملكة قل مثيله في العمل الإنساني والتعاون لخير البشرية وذلك منذ أن قيض الله للملك الموحد عبدالعزيز بن عبدالرحمن - طيب الله ثراه- أن يوحدها. فحب العمل الخيري والمساهمة فيه بسخاء كان هو ديدن المملكة منذ سنوات نشأتها الأولى وقبل اكتشاف النفط، وليأخذ بعدًا آخر من المساهمة فيه مع بدء تباشير الخير بضخ النفط من بئر الدمام رقم 7 التي أعلنت تحول البلاد وبما فيها مساهماتها الخيرية إلى عصر جديد حولها في عقود عدة إلى ملحمة حقيقة جرت فصولها وما تزال على أرض جزيرة العرب، أرض الحرمين الشريفين، أرض آخر رسالات المولي جلت قدرته إلى البشرية جمعاء التي بشر بها خاتم الأنبياء وأفضلهم رسولنا وحبيبنا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم. ولقد مر سجل العمل الإنساني للمملكة بقصص لا تحصى ولا تتسع هذه المقالة لحصرها، وإن كنا نرى مسك ختام هذا التاريخ المشرف والجامع له في مؤسسة عالمية التوجه واضحًا جليًا في تأسيس مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية وتدشين أعماله من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بتاريخ 24 رجب 1436هـ الموافق للثالث عشر من شهر مايو 2015م. وحمل المركز اسم من لا يختلف عليه اثنان بأنه رائد العمل الخيري في المملكة بشكل عام والرياض بشكل خاص التي تولي إماراتها لأكثر من خمسة عقود حولها بما يشبه المعجزة من مدينة بعدد من الأحياء التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة إلى واحدة من أكبر عواصم الشرق الأوسط تطورًا ونموًا. وجهده الخيري شمل كافات شرائح المجتمع ووجه جل اهتمامه لرعاية الأيتام والمؤسسات الخيرية.
ويحمل هذا المركز الحديث التأسيس إرثًا تاريخيًا يمتد إلى عقود خلت قاربت في مجموعها أكثر من ثمانين عامًا، لم تكن فيها المملكة ولا تزال سوى السباقة وصاحبة الريادة في كل مبادرات التعاون الإنساني لما فيه مصلحة الإنسانية جمعاء، وذلك على كافة المستويات سواء كان ذلك على المستوى، الإقليمي، العربي، الإسلامي، والدولي.
إقليميًا، ولهدف نبيل قصد به رفاهية الإنسان الخليجي في كافة المجالات، تم في دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة بتاريخ 25 مايو 1981م، في أبو ظبي التوقيع على اتفاقية تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية. المجلس الذي سعى منذ تأسيسه إلى نشر السلام والتعاون في المنطقة والمساعدة في كل جهد هادف ينأي بها عمّا يعكر صفو الأمن والسلم الدوليين لمنطقة ذات أهمية قصوى لاقتصاد العالم. ولعل المثال الحاضر للأهداف النبيلة لمجلس التعاون هو الجهود الخيرة التي تقوم به دوله وعلى رأسها المملكة لفرض السلم في اليمن الذي نقضت فيه عصابتي الحوثي وصالح المبادرة الخليجية المدعومة دوليًا التي وقعت في الرياض في 23 نوفمبر 2011م، التي هدفت لحل المشكلة اليمنية وتجنيب أهل اليمن شبح الحرب الأهلية، في دولة كل سكانها يحملون السلاح. وقضت المبادرة وفي توجه لا غبار عليه يهدف لمصلحة اليمن أولاً وأخيرًا، إلى تشكيل حكومة وفاق وطني مناصفة بين طرفي النزاع ومنح الحصانة للرئيس علي عبدالله صالح. وبتدخل سافر من ملالي طهران حاولت عصابة الحوثي صالح الاستيلاء على الحكم وإدخال اليمن إلى نفق مجهول شديد العتمة. كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت المملكة من دون خيار آخر غير التدخل العسكري بطلب رسمي من الحكومة الشرعية المنتخبة وبدعم بقرار من مجلس الأمن الدولي. وبدأت «عاصفة الحزم» في 6 جمادى الأولى 1436ـ الموافق 26 مارس 2015م، وانتهت في 20 أبريل 2015م، ولتبدأ عملية إعادة الأمل في دلالة من المملكة وشقيقاتها في التحالف للإسراع في إنهاء الحرب وتجنيب المدنيين ويلاتها. ولكن كعادة العصابات التي لا تعرف الرحمة ولا المسؤولية ما زالت العصابة مصره على الاستمرار في الحرب بغباء سياسي وعسكري لا مثيل لهما. ومع كل هذه الجرائم التي انتهكت فيها عصابة الحوثي صالح كافة المواثيق والأعراف الدولية وقصفها للمدنيين في المدن اليمنية المحاصرة وبإطلاق صواريخ الغدر والهزيمة على القرى السعودية المتاخمة للحدود اليمنية، قامت المملكة وفي خطوة لا نظير لها في تاريخ الصراعات العسكرية من خلال مركز الملك سلمان بإغاثة اليمنيين في الداخل والخارج وسهلت وصول من تقطعت بهم السبل للجهات التي يرغبون في الوصول إليها، وفي خطوة غاية في الوضوح تؤكد لمن لديه ذرة شك بنوايا المملكة فيما يخص اليمن قامت المملكة بتصحيح أوضاع أكثر من نصف مليون يمني كانوا يقيمون بصفة غير نظامية ولتكفلهم سبل العيش الكريم بالتصريح لهم في الدخول في سوق العمل، بل إنها شجعت الشركات والمؤسسات السعودية على توظيف اليمنيين مع حسب ذلك في النسبة المطلوبة نظامًا في توظيف السعوديين. وتبقى الصورة الأوضح ذات الدلالة التي لا غبار عليها وهي أن مئات الآلاف من اليمنيين الذين تم تصحيح أوضاعهم وأضعافهم من أبناء جلدتهم المقيمين بصورة نظامية يعيشون حياة كريمة في المملكة مرحبًا بهم بين أخوانهم من المواطنين في مشهد يؤكد بجلاء الصورة الأخوية بين الشعبين اللذين يرتبطان بعلاقات عميقة ضاربه في جذور التاريخ لم ولن تستطيع قوى الشر أن تنال منها مهما حاولت.
عربيًا، المملكة عضو مؤسس لجامعة الدول العربية التي تأسست بتاريخ 22 مارس 1945م، ومنذ ذلك التاريخ قدمت المملكة بسخاء وبطيب نفس مساعدات ومساهمات في كل ما يخص العمل العربي المشترك لمصلحة المواطن العربي، وتقدم الصناديق السعودية قروضًا مُيسرة بمليارات الدولارات للمساهمة في تنمية العالم العربي من أقصى المحيط إلى كل بقعة منه تحتاج إلى تنمية تصب في صالح الشعوب العربية، بعيدًا عن الشعارات التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
إسلاميًا، المملكة هي العضو المؤسس ودولة المقر لمنظمة التعاون الإسلامي التي أنشئت في 25 سبتمبر 1969م بعد أقل من شهر واحد من الحريق الكبير الذي استهدف الأقصى الشريف، قبلة المسلمين الأولى. ومنظمة التعاون الإسلامي هي أكبر منظمة دولية بعد الأمم المتحدة، وتضم في عضويتها أكثر من خمسين دولة. وعملت هذه المنظمة ومنذ تأسيسها في تعزيز العمل المشترك بين الدول الإسلامية، ومن خلال البنك الإسلامي للتنمية ذراع المنظمة الاقتصادي تم تقديم قروض ميسرة بمليارات الدولارات لمشروعات التنمية في البلاد الإسلامية التي تعاني محدودية الموارد الاقتصادية والطبيعية واستفاد منها ملايين من السكان، وتعتبر المملكة هي المساهم الرئيس في رأس مال البنك.
دوليًا، المملكة عضو مؤسس لمنظمة الأمم المتحدة ووقعت على ميثاق التأسيس في مؤتمر سان فرانسيسكو بتاريخ 24 أكتوبر 1945م، وعملت منذ ذلك الوقت في دعم كل المؤسسات والمنظمات المنطوية تحت مظلة الأمم المتحدة، وشمل دعمها السخي والمستمر بشكل خاص المؤسسات ذات العلاقة بالإنسان ورفاهيته وبشكل مباشر كمنظمة الأمم المتحدة للثقافة الفنون (اليونسكو)، منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، منظمة الصحة العالمية، منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسيف)، منظمة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا)، وبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة. والمملكة من أوائل الدول التي حذرت من مخاطر الإرهاب على السلم الدولي، ورعت مؤتمرًا دوليًا بهذا الخصوص في الرياض عام 2005م، تمخض عنه إعلان الرياض لمكافحة الإرهاب، ودعمت الأمم المتحدة بأكثر من 100 مليون دولار لإنشاء مركز دولي بإشراف المنظمة بمقرها في نيويورك لمكافحة الإرهاب. ومن منطلق حرصها على السلام الدولي قدمت المملكة وبموافقة الدول العربية مبادرة السلام العربية مع إسرائيل، وذلك خلال فعاليات مؤتمر القمة العربية الذي عقد في بيروت في شهر مارس 2002م، ولتثبت المملكة للعالم كله الرغبة العربية لسلام عادل لكل أطرافه، ولتؤكد المبادرة وما تبعها بعد ذلك من مفاوضات رعتها الولايات المتحدة بأن إسرائيل لا هدف لها سوى التسويف وبلع المزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة بسياسة استيطان لا هوادة فيها.
إِنسانيًا، سجل المملكة ناصع البياض في دعم الإنسان أينما كانت هناك حاجة لذلك وخلال الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات ومجاعة، أو خلال الحروب والنزاعات، تدعم الأشقاء وتدعم الأصدقاء والإنسان بإيمان منها وبدورها المحوري في تعزيز السلم والأمن الدوليين. الوثائق والسجلات تشهد بأن المملكة عبر تاريخها استقبلت هجرات متتالية لمضطهدين من العديد من بقاع العالم واستقبلهم ووفرت لهم العيش الكريم من دون دعاية أو أغراض سياسية، ولم يكن الهدف إلا شعورها الإنساني النبيل لدولة فاعلة منذ تأسيسها في خدمة الأهداف الخيرة للإنسانية جمعاء. ويعيش في المملكة ما يقارب عشرة ملايين شخص مع عائلتهم وفرت لهم المملكة فرص العيش الكريم وبحاولات مالية لبلدانهم الأصلية تبلغ مليارات الدولارات شهريًا، ولم تفرض عليهم ضرائب ترهق كاهلهم أو تضع عليهم التزامات تقلقهم.
ولعل من المستغرب أن دولة بحجم إنجازات المملكة في المجال الإنساني التي تقدم حوالي 6 في المائة من دخلها القومي لمساعدات الدول الفقيرة، وهي النسبة الأعلى على المستوى الدولي، لم تفكر جائزة مرموقة كجائزة نوبل للسلام أن ترشحها للفوز بها، ولعل السبب في ذلك بأن الجائزة تُمنح للأشخاص أو المنظمات وكذلك المراكز وليس للدول.
الجدير ذكره بأن مؤسس الجائزة السويدي الفريد نوبل مخترع الديناميت أوصي بأن تكون النرويج مسؤولة عن فرع السلام من الجائزة عوضًا عن بلاده السويد للأسباب لم يوضحها وإن كان البعض يفسرها بأنه كان يهدف من ذلك تعزيز التعاون بين بلاده السويد وجارتها النرويج. وترك نوبل مسؤولية منح الجائزة لبلاده السويد في أبوابها الأربع الأخرى والمتمثلة في الطب، الكيمياء، الفيزياء والاقتصاد.وقد تحدث البعض بأن الجائزة مُسيسة وتهدف لتعزيز القيم الغربية، ومع قول ذلك تبقى الجائزة تحظى بشهرة عالمية في كل أرجاء المعمورة، ولا شك أن مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية King Salman Humanitarian Aid الجزيرة Relief Center، مرشح يتمتع بكل المواصفات لنيل الجائزة، ولعل رسالة المركز توضح بجلاء الأهداف التي أقيم لسببها المركز، وهي «إدارة العمل الإغاثي وتنسيقه على المستوى الدولي بما يضمن تقديم الدعم للفئات المتضررة بكل حيادية» ويستند المركز على إرث أكثر من ثمانين سنة من العمل الخيري والإنساني للمملكة العربية السعودية.
ختامًا، لعل شعر الفرزدق يفتخر به على جرير خير ما يرد للذاكرة عند الحديث عن سجل المملكة العربية السعودية وسجل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود في العمل الإغاثي والخيري، قال الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وأفضل ما يقال هنا لإعادة إنتاج معنى بيت الفرزدق هو التالي:
هذه بلادي فجيئي بمثلها
إذا جمعتنا يا نرويج المحافل