د.عبدالله البريدي
ارتبطت الثقافة - بشكل عام - في عالمنا العربي بممارسات لا تمت بصلة للأبعاد التنموية في كثير من تصوراتها وممارساتها ونتاجاتها، إذ يتوهم كثيرون أنها معنية بالأدب والفكر من زوايا كتابية أو تنظيرية صرفة،
دون أن يكون لها دور ملموس في التعبئة الاجتماعية الواجبة لبناء منصات قوية للتنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا وهم يجب إزالته.
استعرضت في عام 2010 في مقال لي بجريدة الجزيرة كتاباً مهماً حول «الصناعات الإبداعية» (الناشر: عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عدد 338، ج1، 2007)، والذي يذهب إلى التأكيد على أن المعرفة والأفكار تقودان عملية تكوين الثروة والتحديث، وبأنّ التفكير الاعتيادي أو التقليدي في مجتمع المعلومات غير كافٍ على الإطلاق؛ وذلك أنه لا يفلح في تحقيق أهداف التنمية ومتطلبات النهضة ولا الوفاء باشتراطات الهندسة الاجتماعية، فذاك هو شأن الإبداع، والإبداع وحده!
بمشاركة نخبة من المختصين حرّر (جون هارتلي) - أستاذ وعميد كلية الصناعات الإبداعية بجامعة كوينزلاند للتكنولوجيا في أستراليا - كتاب «الصناعات الإبداعية» Creative Products، وفي هذا الكتاب تأكيد جازم على أنّ الإبداع سيقود التغير الاجتماعي والاقتصادي في هذا القرن. ويوضح (جون هارتلي) أن فكرة الصناعات الإبداعية تستهدف توضيح التقارب المفاهيمي والعملي بين الفنون الإبداعية (الموهبة الفردية) والصناعات الثقافية (النطاق الجماهيري)، في إطار تقنيات إعلام جديد داخل اقتصاد معرفة، يستخدمها مواطنون - مستهلكون تفاعليون جدد (ص 12). وقد ظهر مفهوم الصناعات الإبداعية في أستراليا أوائل التسعينيات من القرن 20، وقد تفاعلت معه بعض الحكومات الغربية بشكل جاد، ومن ذلك حكومة (توني بلير)، حيث أسست وحدة خاصة للصناعات الإبداعية في وزارة الثقافة البريطانية مع تأكيد الوزارة على حتمية دعم وتشجيع الإبداع الناتج من (الملكية الفكرية) أو المتعامل معها، ومع الوقت أصبح التركيز بشكل أكبر على الصناعات ذات النزعة الفنية والثقافية وحقوق النشر (أي مع تركيز أقل على براءات الاختراع والماركات المسجلة التي تلقى اهتماماً أكبر لدى وزارة التجارة والصناعة) (ص 160-158).
وقد استعرض محرر الكتاب (جون هارتلي) بعض مؤشرات أهمية الصناعات الإبداعية في الاقتصاد الجديد، ومن ذلك ما يلي:
- في عام 2001 قدر صافي عوائد الصناعات الإبداعية الناتجة فقط من (صناعة حقوق النشر الأمريكية) بنحو 791 مليار دولار وهو ما يعادل 7.75% من إجمالي الناتج القومي، ويقدر عدد العاملين في تلك الصناعة بـ 8 ملايين، وتسهم في قرابة 89 ملياراً من الصادرات، وهذا يعني تفوقها على الصناعات الكيميائية والسيارات والطائرات وقطاع الزراعة والقطع الإلكترونية والحاسوب.
- أما في بريطانيا فقد قدرت عوائد الصناعات الإبداعية بـ 112 مليار جنيه استرليني ويعمل بها 103 مليون وتشكل ما يقارب 5% من الناتج الإجمالي، وفي أستراليا تشهد تلك الصناعات نمواً مطرداً بلغ ضعف معدل نمو الاقتصاد ككل.
وفي اتجاه يعزز الحديث عن الدور الخطير لمثل تلك الصناعات في هذا القرن، يؤكد أحد مؤلفي الكتاب (ريتشارد فلوريدا) - أستاذ كرسي Hirst للسياسة العامة في جامعة جورج ميسون - أن الطبقة الإبداعية (فنانين وموسيقيين وعلماء) ستكون هي الطبقة الأكثر تأثيراً، وبأنهم سيفرضون أنماطهم في التنظيم والإدارة وساعات العمل. وقد تعرّض الكتاب إلى مفهوم «صناعة الثقافة» مع إيراد جملة من الانتقادات لهذا المفهوم (على سبيل المثال من قبل مدرسة فرانكفورت) وربطها بمفهوم «الاستنتاج الآلي» ومفهوم «تجميل السياسة» ومفهوم «تسليع الثقافة». كما عمد الكتاب بشكل تفصيلي إلى إيضاح الحدود الفاصلة والاستخدامات المختلفة للمصطلحات المتشابكة: الصناعات الإبداعية - صناعات حقوق النشر - صناعات المحتوى - الصناعات الثقافية - المحتوى الرقمي.
ومن المسائل المهمة في الكتاب أن (جون هوكنز) يلفت انتباهنا إلى أن نمو «الاقتصاد الإبداعي» يتطلب تغييراً جذرياً في طريقة «تفكير الحكومات» بشأن المشاريع التي تعتمد على «بيع الأفكار» كصناعات الإعلام والترفيه، مؤكداً على أن «الإبداع ليس سهلاً ولا روتينياً. إنه نخبوي وتعاوني ... ومن الصعب تنظيمه» (ص 162)، مع التشديد على أن تلك المشاريع تحتاج إلى نمط جديد في الإدارة والمحاسبة والخدمات المالية والبنكية وما إلى ذلك.
وقد طالبت آنذاك بالإفادة من فكرة «الصناعات الإبداعية» من قبل وزارة الثقافة والإعلام، وكانت مطالبة عامة، على أنني هنا أرى أنه بات من الضروري تأسيس وكالة متخصصة تعنى بجعل الثقافة رافداً للتنمية الثقافية والمجتمعية وتنويع الاقتصاد الوطني، بما في ذلك بناء «رأس المال الثقافي» و»رأس المال الاجتماعي» وتعزيز «الابتكارية الوطنية»، حيث تمتلك المملكة مقومات كبيرة لتحقيق ريادة على المستوى العربي في هذا الفضاء الثقافي التنموي الإبداعي، ولتكن تلك الوكالة بمسمى: «وكالة الوزارة للتنمية الثقافية». آمل أن ينال هذا الموضوع المحوري اهتماماً خاصاً من الدكتور عادل الطريفي - وزير الثقافة والإعلام، وسيكون للوكالة الجديدة دور رئيس في تقوية الذراع التخطيطي الاستراتيجي للوزارة في كل ما يخص الممارسات الثقافية والإعلامية على نحو يزيد من جودة المحتوى التخطيطي للثقافة والإعلام وانعكاساتها في الخطط التنموية الخمسية وغيرها. ومن خلال قراءة متمعنة في الخطط التنموية عبر مراحلها المختلفة، لم أجد ركائز قوية للفعل الثقافي والإبداعي، حيث لم تفلح تلك الخطط في تفعيل الثقافة والإبداع وجعلهما رافدين للتنمية والاقتصاد (سأكتب مقالاً مفصلاً عن هذا)، وقد يكون ذلك راجعاً لعدم وجود وحدة متخصصة في وزارة الثقافة والإعلام قادرة على بلورة أهداف ناضجة ومبادرات ملائمة، وتأتي الوكالة الجديدة (وكالة التنمية الثقافية) لتسد هذه الفجوة، فهل نرى تحركاً سريعاً من قِبل الوزير الجديد؟ وإني لأشدد على أنّ في مثل هذا العمل النوعي صناعة للتاريخ!