عبدالله بن محمد السعوي
الإنصاف كقيمة أخلاقية عليا، وكأحد أبرز أخلاقيات الخلاف لا بد أن تكون حاضرة وبكثافة لدى ذلك الفقيه الذي يتمتع بدرجة عالية من البناء المعرفي المتسق، حيث يتجسّد لديه الإنصاف لا كسلوك شعاراتي تفرضه أدبيات البراجماتية، وإنما كواقع فعلي تستحيل قراءة تلك المفردة - مفردة الإنصاف - من بُعدها اللفظي المجرد إلى بُعدها الفعلي كحقيقة مجسّمة نلمس مصاديقها على أرض الواقع، وفي مكونات البنية العامة للخطاب الذي لا شك أن حضوره حينئذ سيكون أعمق أثراً وأكثر فاعلية.
أهم ما تمتاز به فقهيات الاعتدال التي أبرز ما يمثلها الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله هو التحلي التام أو شبه التام بمنقبة الإنصاف والترجمة الأمينة لدلالاتها وتجسيد المنحى الدلالي لجملة: «ولا تبخسوا الناس أشياءهم» ففقهاء الإنصاف هنا يتعاطون مع اختياراتهم ونقيضها بروح حيادية متجردة تُعاين الصورة من مختلف الزوايا فلا يهمّشون المخالف ولا يستهجنون رؤيته، بل على العكس هم كما يقول (عبد الرحمن بن مهدي) يكتبون «ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم» (قواعد في علوم الحديث ص444).
هذا الإنصاف الذي اختفى حتى بات اليوم عملة نادرة وإن حضر ذات يقظة مّا، فهو يحضركسلوك شرعي لكن مع وقف التنفيذ. هذا الإنصاف له امتدادات تطبيقية يأتي من أبرزها:
1 - الرجوع عن القول متى ما تجلت مرجوحيته. الرجوع عن القول إلى نقيضه أمر شاق، فالفقيه الذي استهلك عمره، وأنفق وقته في مناصرة قول مّا يصعب عليه أحياناً أن يقول بخلافه، أو يقرر ما هو خارج عن إطار المنظومة الفقهية التي ينتمي إليها حتى ولو لاح الحق له خارجها. إن من أشد الأشياء وأصعبها على نفسية الفقيه هو الرجوع عن قول طالما تبناه ونظّر له وحشد المزيد من الحجج للبرهنة على رجحانه. هذا الرجوع يتعسّر جداً إلا على ذلك الفقيه الذي يتمتع بقدر من التواضع العلمي والاستعداد النفسي والمصداقية العالية والتجرُّد الحر.
إن تبني الرؤية الفقهية المخالفة - بعد ما يبدو للفقيه أن منطقها الاستدلالي هو الأكثر اتساقاً مع محكمات التشريع - هو أمر ليس بمقدور كل أحد، بل هو في بعض الأحيان أمر دونه خرط القتاد وخصوصاً حينما يكون هذا الفقيه أو ذاك مذعناً للجماهير ويخشى ردود أفعالها ولا ريب، فالقطاع الجماهيري له هيبة تمنع العالِم في كثير من الأحيان من التعبير عن رأيه حتى ولو كان تعبيراً خافتاً في منتهى الهمس!
إن وقوع الفقيه في قبضة الجماهير وهي قبضة مهما بدت مخملية إلا أنها في الحقيقة قبضة حديدية في الصميم وقوع الفقيه في أسر تلك القبضة وعدم قدرته على الإفلات منها والتمرد المدلل على مواضعاتها أمر بلا شك يحد من فعالية آلياته الاشتغالية ومعاينة الصورة بكافة أبعادها، ويُحَجّم من تحركه وبطريقة تُفقده شرط الاستقلال الذاتي الأمر الذي يحمله - طوعاً أو كرهاً - على التنازل عن ذاته كأحد أدوات توليد الدلالة لصالح التلبس بالنمطي المكرور، والانصياع لمقتضى خصائص الزمان والمكان والمسايرة التلقائية للقناعات العامة والاندماج في الجو المحيط.
إن ارتهان الفقيه للبطانة الخاصة فلا يرى الواقع الأمن خلالها, ووقوعه في أسر الأتباع وعدم قدرته على تجاوز تلك الأسوار أمر من شأنه أن يجعل من تلك المنظومة حاكماً أول - بل ووحيد! - لرؤاه واختياراته وعلى نحو يعزله عن هذا العالم ويصادر قدرته على التلبس بروح التجرد، ومن ثم تجسيد مقتضيات الإنصاف والتي يفترض التواطؤ على ترسيخها كهوية رامزة للفضاء الفقهي.
.............................................................................. يتبع