عبدالله بن محمد السعوي
الثقافة المحلية تعاني وإلى حد بالغ الإفراط من هيمنة الروح الانغلاقية وسيطرة مقتضياتها ليس كحالة استثنائية عارضة بل كداء مستوطن تكيفت معه الذهنية العامة سلبا، وهذا ما يتضح بجلاء إبان طرح الأقوال الفقهية المخالفة للمألوف والمغايرة للسائد.
ولو تأملت في مسائل فقهية كثيرة مثل (قراءة الفاتحة للمأموم أو عدم قراءتها، ووجوب صلاة الجماعة أو سنيتها، ووجوب الوضوء من لحم الإبل أو عدمه، وحرمة الأخذ من اللحية أو جوازه، وجواز الإسبال لغير الخيلاء أو تحريمه)، لوجدت أن الطرح المجرد لمثل تلك المسائل كفيل بإثارة التوتر وبعث ألوان من ضروب التشنج، مع أن هذه المسائل هي في حقيقتها مناط اجتهاد ومحل تدافع بين الآراء والمذاهب، فهي ليست مسائل قطعية وإنما هي ظنية قابلة للأخذ والعطاء والرؤية المتنوعة، ومع ذلك يصعب حتى مجرد طرحها كمادة للحوار، وذلك لأن الذهنية العامة هي بطبيعة تركيبها ذهنية واحدية البعد، لذلك فمهما حشدت من الحيثيات الدلالية ومهما كانت قوة طرحك من حيث عمق الاستنباط وتميز منهج الاستدلال وصرامة الإجرائية التحليلية وبراعة القراءة الفقهية فلن يحظى بالاعتبار ولو في حدوده الدنيا وهذه نتيجة طبيعية، فالفرد حينما ينشأ ومنذ نعومة أظفاره وهو قد تبرمج ذهنيا بالقول الواحد وبالرؤية الواحدة - ليس في الفقه فحسب بل في كافة المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها - حينما لا يسمع إلا إلى رأي واحد فقط أو مذهب واحد فقط أو توجه واحد فقط فلا شك أنه حينئذ سيتبرمج وفقا لذهنية البعد الأحادي الاتجاه، وسيحلل الأشياء وفقا لنظرية العامل الواحد وهذا يعني أنه سيحمل بين جنبيه روحا قائمة على أولوية المفاصلة مع المختلف، وهذا ما قد يقود أحيانا إلى تشكل حالة من الفاشية الفقهية؛ لأن مثل هذا الضرب يعتقد أنه قد قبض على الحقيقة النهائية وبالتالي سيتعاطى مع كافة رؤاه وأفكاره ونماذجه، سيتعاطى معها بوصفها خارج دائرة التشريح النقدي، ستكون بمثابة نموذج ضاغط ومهيمن عليه فكريا وشعوريا وسينطبع به وعلى نحو واع وغير واع وبشكل يجعله يتعاطى معها كما لو كانت مُسلَّمة قطعية تستعصي على النقاش - بل سيُعدُّ مجرد طرح مثل تلك القضايا للحوار - فضلا عن مساءلتها واستشكال بعض محتوياتها - هو ضرب من التطفل وممارسة الإساءة التي لا تغتفر!