م. عبدالعزيز بن محمد السحيباني
مع كل ربيع مزهر أخضر.. في كل رياض معشبة خضراء تفوح فيها رائحة الخزامى وشقائق النعمان.. وفي كل صحارينا الممتدة من صحراء النفود شمالاً إلى رمال الربع الخالي جنوباً إلى الدهناء والصمان شرقاً وإلى عريق الدسم والساحل الغربي غرباً.. في كل مدننا العامرة وهجرنا وقراناً التي تمتد في طول البلاد وعرضها وبدأت تلوثها أكوام النفايات حولها وفي صحاريها التي قضى عليها العبث بالبيئة ورمي المخلفات حولها من مصانع ومباني.
بيئتنا هي محيطنا الذي نعيش فيها هي مدننا هي طرقنا هي صحارينا الممتدة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً هي مرابعنا الجميلة هي أوديتنا المترعة بماء المطر وهي هواؤنا الذي يعبق برائحة الخزامى والأقحوان.
بلادنا كانت إلى عهد غير بعيد مضرب المثل في جمال بيئتها وخلوها من الملوثات وخلال سنوات معدودة بدات بلادنا تدفع ضريبة إنتاجها للنفط وبدات أدخنة مصافي النفط وملوثات المصانع وعوادم السيارات تنشر سحباً كثيفة من الأدخنة التي تلوث أجواء مدننا، حتى أصبحت مدينة الرياض تسابق مدن العالم الصناعية الكبرى نحو أكثر أجواء المدن تلوثاً.
وبدأت النفايات تحاصر مدننا وملوثاتها تخالط مياهنا الجوفية وبدأت المصانع ترمي مخلفاتها في صحارينا الجميلة وبدأت مياه الصرف تسيل في ودياننا التي لا تعرف إلا ماء المطر. وأقول إننا بلد ذو بيئة جميلة صحراء ذات كثبان حمراء وجبال ووهاد وسهول وربيع زاه وهضاب جميلة، وأرياف زراعية.. هذه بيئتنا ذات التنوع الجغرافي الجميل بدأت تفسدها أيدي العبث.. سواء كان ذلك بسبب الامتداد العمراني والصناعي.. أو بسبب تلويث الصحاري والجبال والعبث بها بواسطة الجرافات أو التعدي عليها بقصد تملك الأراضي دون وجه حق، أو رمي المخلفات والنفايات من قبل الشركات والمصانع الخاصة.. بلدنا بدأت تجف مياهه في كثير من المواقع.. من يرى مزارعنا وقد يبست نخيلها واقفة.. من يرى بساتيننا الوارفة الظلال وقد أصبحت يباباً.. ونباتاتها وأشجار لوزها وتينها ورمانها وعنبها قد أصبحت هامدة.
من يرى صحارينا الجميلة وقد امتلأت بالمخلفات.. من يرى مزارعنا وقد زحفت عليها الرمال، من يرى محيط مدننا وقد امتلأ بالمخلفات، من يرى سماء مدننا وقد كسا بغبار المصانع.
من يرى شواطئنا وقد رميت فيها المخلفات، من يرى مراعينا الخضراء وقد اعتدى عليها من يرى كثبان رمالنا الجميلة وقد أزيلت ونقلت رمالها لبناء الكتل الخرسانية.. من يرى أشجار الطلح الخضراء وقد قطعت من قبل العمالة لبيعها.. من يرى كل ذلك يقول ألا تستحق أن يكون لدينا (وزارة البيئة).. إنها أصبحت ضرورة لا مناص منها يمكن أن ينضوي تحتها الجهات التي تهتم بالبيئة كمصلحة الأرصاد وحماية البيئة والهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها وأقسام الغابات والمراعي بوزارة الزراعة وهي من أهم الأقسام والمسؤوليات ولكن انضمامها لوزارة الزراعة جعلها مسؤولياتها الكبيرة معدومة تقريباً في وزارة تهتم بالزراعة أساساً وليس بإنماء المراعي والغابات وحمايتها والرقابة على مصانع الخرسانة ومواد البناء التي هي من مهمات البلديات التي لا تستطيع الوقوف في وجهها مادامت مرخصة من جهة أخرى ليس من مهماتها الحفاظ على البيئة (وزارة البترول والثروة المعدنية).
كما أن حجم النفايات الهائل للمدن والذي فاق إمكانات الحرق والردم أصبح منظراً كريها يحيط بالمدن والبلديات مهماتها إبعاده عن المدن فقط وليست مسؤولة عن الصحاري المحيطة بها ومن مهمات وزارة البيئة المقترحة وضع التنظيمات والأسس والعمليات التي تضمن الأسلوب الصحي للتخلص من النفايات واستثمارها، والكثير يتساءل لماذا ينعدم الربيع لدينا رغم الهطول المستمر للأمطار بشكل يختلف عن ما كان قبل عقود من الزمن والجواب ياتي من مشاهدتنا لمنطقة محمية بعقوم أو شبوك ومقارنة غطائها النباتي مع ماحولها، حيث يزهو ربيعها وكل ما حولها يباباً تراباً وغباراً بسبب دوسه بكل ذي خف وحافر إطار لا يدع فرصة لأي نبتة في النمو مما جعل من مهمات الوزارة المقترعة إعادة الغطاء النباتي الربيعي الأخضر الجميل حول مدننا وحماية صحارينا من العبث ورمي مخافات التنزه والرعي، حيث ملأت أكياس البلاستك صحارينا وشواطئنا.
وباختصار فإن (البيئة) ضاع دمها بين الوزارات وأصبحت ضحية لكل مخالفات التنمية وأصبحت منسية وليست هناك جهة مسؤولة عنها.. إن إنشاء وزارة (البيئة) سيحقق لنا حل المعادلة ذات الطرف المفقود وهي الحفاظ على البيئة التي ضاعت بين الوزارات، وأرى أن يتم إنشاء هذه الوزارة التي ستوقف لاشك كثير من الهدر المالي والاقتصادي الذي يحدث بسبب عدم وجود جهة مسؤولة عن البيئة ولن تكون هذه الوزارة عبئاً بل ستكون استثماراً ناجحاً وترشيداً للإنفاق يخدم اقتصادنا وتنميتنا ويمكن أن تتولى هذه الوزارة المسؤوليات الآتية:
1- مشروعات التأهيل البيئي السياحي: كثير من مشروعات التأهيل البيئي للأودية والشواطئ والمنتزهات الوطنية لاتجد جهة مسؤولة عنها تحتضنها وتديرها وتنفذها وتظل كثير من المعالم كالشواطئ الرائعة كشواطئ البحر الأحمر التي تحوي شواطئ رملية لؤلؤية صافية المياه معتدلة الحرارة وشعاباً مرجانية وتكوينات صخرية متميزة غائبة عن الجهات المسؤولة وتتعرض للعبث والتلوث ورمي المخلفات والتعدي عليها ووجود جهة مسؤولة عن حمايتها وتنميتها واستثمارها سيحقق فائدتين هما حماية هذه الشواطئ وتحقيق مبدأ تنويع مصادر الدخل باستثمار هذه المواقع سياحياً ومن خلال الثروة السمكية، وينطبق ذلك أيضاً على الأودية التي طالت التعديات مجاريها وجرفت مجاريها واستغلت للصرف الصحي والصناعي ولوثت هذه المياه المياه الجوفية وبالتالي تلويث مصادر مياه الشرب للمدن التي تعيش على الأودية ومثال لذلك وادي الرمة الذي تقع على ضفتية كل مدن القصيم تقريباً وغطت معظم أجزائه مياه الصرف الصحي التي لاشك أنها ستتسرب إلى المياه الجوفية وبالتالي مصادر مياه الشرب التي لاشك أنها تستقي من هذا الوادي، وما حصل ذلك إلا بسبب غياب الجهة المسؤولة عن بيئة الأودية فوزارة الزراعة مسؤولة فقط عن الإرشاد الزراعي والثروة الحيوانية ووزارة الشئون البلدية والقروية مسؤولة عن ما بداخل النطاق العمراني وغابت الجهة المسؤولة عن الأودية فصارت هي والشواطئ والصحاري ضحية من ضحايا التنمية.. وأقترح أن تتولى هذه الوزارة مشروعاً بيئياً سياحياً لتسييل وادي الرمة نهر الجزيرة في غابر الأزمان وتنميته وحماية مجراه وجمع مياه السيول بسدود وضخها إليه لكي يكون وادياً كثيف الشجار وافر المياه، فسنوات التصحر حولته إلى مكان لرمي مياه الصرف الصحي ولتجريف مجراه والتعدي على كثير من نواحيه وروافده.
2- المنتزهات البيئية الطبيعية: ضاعت مسؤولياتها بين وزارة الزراعة ووزارة الشئون البلدية والقروية ومنها منتزهات على كثبان الرمال كمنتزه القصيم الوطني ومنتزهات فوق رؤوس الجبال كمنتزه السودة، ولاشك أن هذه المنتزهات تساهم في التنمية البيئية لصحارينا وجبالنا وتساهم في تنمية الغطاء النباتي للصحاري ولابد من جهة ترعاها ووتتبنى المبادرات المتميزة في هذا المجال كمنتزه الزلفي الوطني الذي صار واحة خضراء مزهرة في وسط صحراء نجد وعلى سفوح كثبان رمال نفود الثويرات، وقام بجهود ناجحة من أحد رجالات الزلفي الكرام ولابد من وجود برنامج وطني لدعم مثل هذه المبادرات مثل أن تكون جمعية لأصدقاء البيئة تتولى حماية الغطاء النباتي وتنميته بدعم من هذه الوزارة المنتظرة.
3- حماية البيئة من مشروعات التنمية: لاشك أن لكثير من المشروعات التنموية ضريبة فالطرق التي تخترق صحاري البلاد طولاً وعرضاً ساهمت بالقضاء على الغطاء النباتي وجرف ما بجانب الطرق لنقل المواد المكونة للطريق وترك حفراً عميقة وقامت شركات صيانة الطرق بوضع مخلفات الأسفلت على مسافات بجانب الطرق وكذلك مواقع المعدات التي تقوم بالإنشاء والصيانة للطرق وهذا لاشك حدث بسبب أن وزارة النقل مسؤولة عن الطريق وليست مسؤولة عن الغطاء النباتي أو البيئة ولا توجد جهة مسؤولة عنها، كذلك مشروعات سكك الحديد التي تنشأ حالياً مخترقة الصحاري وغطاءها النباتي وما يتركه ذلك من أثر بسرعة التدهور لبيئي والتصحر، وكذلك مشروعات التعدين سواء النفطية أو المعادن ومواقع نقل المواد لبناء الطرق والمباني.
4- في كثير من الدول أصبح (تدوير النفايات) مصدراً أساسياً للدخل وهذا نبع من ضرورة الحفاظ على البيئة من التلوث ولكن هذه الدول وجدت في هذه النفايات منجماً لإنتاج الطاقة أو إعادة استخدام المواد بعد تدويرها وبالتالي حصلت على بيئة نظيفة واقتصاد متين يتلافى الهدر ومن المعروف أن كل ما ينتج من مواد هو للإنسان أولاً وكل التكاليف ترصد للإنتاج لصالحه وبالتالي فإن جزءاً من هذه التكاليف يمكن تدويره والاستفادة منه مرات بدلاً من مرة واحدة وبالتالي فإن الحفاظ على البيئة أوجد اقتصاداً منتجاً متحركاً من خلال استغلال النفايات لإنتاج الطاقة بدلاً من البترول وبالتالي زيادة الناتج المحلي وهذا الاقتصاد هو ما يجب أن نتجه له في ظل انخفاض أسعار البترول وذل بحاجة إلى تشريعات وأنظمة وتنسيق مع الدول المتقدمة بيئياً ومع المنظمات الدولية كمبادرة الغاز العالمية التي تهدف للحفاظ على البيئة وتقليل انبعاث الكربون والميثان الضار بالبيئة وتوجد الدعم الفني والمالي للدول المهتمة بذلك ولا توجد جهة مسؤولة عن ذلك إلا مصلحة الأرصاد وحماية البيئة ومثل ذلك يحتاج إلى جهاز كبير يمكن أن يكون (وزارة البيئة) التي أتمنى أن توجد في هذا الوقت دعماً لاقتصادنا ووقفاً للتلوث وحماية لبيئتنا. ومجلس الشئون الاقتصادية والتنموية بقيادة الأمير الفذ الأمير محمد بن سلمان هو صانع القرار الأهم لمثل هذه الوزارة الهامة.