م. عبدالعزيز بن محمد السحيباني
المملكة العربية السعودية بلد مترامي الأطراف يشمل تنوعاً جغرافياً وديموغرافياً وبيئياً مختلفاً كل الاختلاف، وهذا التباين بين مناطق المملكة جعل من هذه المناطق مناطق تبادلية، فالحرف والصناعات تختلف من منطقة إلى أخرى وكذلك الزراعة والمياه والثروات المختلفة.. إن هذا التباين هو في صالح هذه البلاد التي حباها الله بثروات هائلة من الذهب الأسود الذي هو شريان التنمية الأول، كما تشمل أراضيها بدائل للبترول يتنوع معها مصدر الدخل وأهمها (الطاقة الشمسية) التي أرشحها لأن تكون بديلاً عن النفط.. فلدينا صحارى تسقط عليها أشعة الشمس كأكبر مساحة تلقي عالمياً.. وهذه الصحارى الممتدة والمدن الساحلية التي تحوي موانئ على بحرين مختلفين، وهذا المطارات الداخلية التي تنتشر عبر ساحات البلاد طولاً وعرضاً، وهذه الطرق السريعة التي تربط شمال البلاد بجنوبها وشرقها مع غربها مثَّلت أهم عناصر البُنى التحتية.. وها هي تسير بخطى موفقة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. الملاحظ أن التنمية تعتمد على الكثافة السكانية فأينما وجدت الكثافة السكانية وجدت التنمية، ولعل هذا يعود إلى نجاح الاستثمارات مع وجود كثافة سكانية.. وقد تركزت التنمية المتكاملة على محور وسط المملكة الممتد من الشرق إلى الغرب (ومن البحر إلى البحر)، أي من الدمام مروراً بالرياض وصولاً إلى جدة.. ولاشك أن هذا المحور يشمل المدن الرئيسية الثلاث في المملكة (جدة - الرياض - الدمام)، وهو محور وسط المملكة يصبح لديه قناعة أنه لابد من وجود خطوط نمو أخرى وذلك لعدة أسباب منها:
أ- التكدس السكاني في هذه المدن الثلاث سيصبح عبئاً على الناتج المحلي وخللاً في التوازن الاقتصادي للبلاد بسبب أن الزحام المروري وتكدس الخدمات سيصبح عنصراً طارداً للاستثمار.
ب- وجود مقوِّمات رئيسية للنمو السكاني في مناطق أخرى من المملكة (مناطق التعدين، الزراعة، السياحة، الرعي) وهي نشاطات أساسية ومقومات أولية للنمو الاقتصادي المتوازن والمدروس بدلاً من الاتجاه إلى خط تنمية واحد فقط وهو الحاصل حالياً في محور وسط المملكة (عقاري صناعي فقط).. إن وجود بنية تحتية في مناطق زراعية أو تعدينية أو سياحية سيخلق بلا شك فرصاً أخرى لنمو الناتج المحلي وتطور إقتصاد البلاد ككل.
ج- إن شبكة الخطوط الحديدية العملاقة التي بدأت وزارة المالية ووزارة النقل في تنفيذها مؤخراً هي الحل الأمثل والمفتاح السحري الذي سيوجد نوعاً من التوازن بين مناطق المملكة المتنوعة الإمكانات (سياحة - زراعة - تعدين...)؛ وذلك لأن شبكة القطارات تعتبر شرياناً رئيسياً هاماً إلى جانب الطرق السريعة لنقل البضائع والركاب وبالتالي تشجيع النمو في محاور المختلفة.. ونتج عن ذلك أن هذا المحور استوعب 65% من سكان المملكة (مدن الرياض - مكة وجدة - الدمام)، وهذا التركَّز مرشح للزيادة ما لم تكن هناك خطط لإيجاد محاور موازية لهذا المحور سواء من الشرق للغرب أو من الشمال للجنوب أي أن الهجرة ستزداد إلى المدن الرئيسية وبالتالي تركز الكثافة السكانية بها مما ينتج عن ذلك زيادة في عدد السكان بهذه المدن وزيادة الزحام المروري وزيادة أعباء الخدمات، وكذلك التلوث.
إن (التنمية المتوازنة) = خطط مدروسة.. إن وضع خطط تنموية مدروسة سوف يعود حتماً تعني دراسة مختلف المجالات (بيئية، تجارية، زراعية، تعليمية،..... إلخ)؛ ولكن أيهما أولاً هل هو التنمية أم النمو السكاني والعمراني؟.. أي أيهما أولاً الدجاجة أم البيضة؟.. وفي رأي أن العنصرين هما متبادلان فأينما وجدت تنمية عمرانية وبنية تحتية وجد النمو السكاني، وأينما وجد نمو سكاني وجدت تنمية عمرانية أيّ حسب المعادلة التبادلية الآتية: تنمية عمرانية وبنية تحتية نمو سكاني وحضري.. ولكن التخطيط السليم والمدروس هو أن تكون التنمية العمرانية والبنية التحتية أولاً، ولعل الاتجاه الأخير لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان الذي أعلن عن (برنامج للتحول الوطني) ورؤية للمملكة عام 2020م هي خطوة في أن تكون التنمية بخطى مدروسة وتحول إلى (الاقتصاد الإنتاجي) بدلاً من (الاقتصاد الريعي) حيث إن تنويع مصادر الدخل يعطي زخماً هائلاً لهذا المشروع الوطني الهام والذي لاحظ التكدُّس العمراني والسكاني والمروري للمحور المذكور يصبح لديه قناعة تامة بضرورة وجود خطوط نمو أخرى.
وأعتقد أن خير من يتولى هذا الدور هو (إمارات المناطق) نفسها من خلال تفعيل الدور التنموي لإمارات المناطق في ظل عدم وجود دور تنموي فاعل أو مدروس للجهات التنفيذية، وفي ظل عدم وجود رابط بين الجهات التنفيذية المختلفة، وأقترح أن يكون ذلك من خلال الآلية الآتية:
أ- أن تقوم (إمارة كل منطقة) بتشكيل فريق متكامل من الجهات التنفيذية (وزارة الشئون البلدية والقروية، وزارة الزراعة، وزارة النقل، وزارة الصحة، وزارة التعليم، وزارة الإسكان، ووزارة المياه والكهرباء). ويقوم هذا الفريق الذي يشترك فيه مندوب من كل وزارة مع ممثلي الوزارات في المناطق بمشاركة وزارة الاقتصاد والتخطيط التي سيكون لها دور أساسي من خلال الخطط التنموية والإحصاءات السكانية التي تم وضعها بدراسة ما يلي:
1- فرص النمو السكاني والعمراني المستقبلي للمنطقة من خلال التوجيهات الحالية للمنطقة وزيادة النمو السكاني لها واستطلاع آراء المستثمرين وسكان المنطقة أنفسهم.
2- دراسة الوضع الحالي للمنطقة وحاجتها من مشروعات البنية التحتية (طرق، وسكك حديد، مستشفيات، مدارس، كليات للتعليم العالي، تنمية عمرانية، تشجيع للنمو الزراعي، توسعة للمطارات......)، وتقدير ميزانيات وتكاليف مشروعات البينة التحتية الأساسية الحالية لكل منطقة على حده بمعرفة استشاريين وخبراء في مجال تقدير التكاليف ووضع الخطط.
ب- تقوم إمارة المنطقة من خلال هذا الفريق برفع ما تمت دراسته وتحديده في (أ) إلى (مجلس الشئون الاقتصادية والتنموية) الذي يضم الوزراء المسؤولين عن الاقتصاد والتنمية بما في ذلك وزير المالية ووزير الاقتصاد والتخطيط لتقدير التكاليف التي تحتاجها كل منطقة وتوزيع تكاليف إنشاء هذه المشروعات على عدد من السنوات، بحيث يتم تغطية مشروعات البنية التحتية في كل مناطق المملكة من خلال الميزانيات السنوية تغطية كاملة، فالميزانية الحكومية هي الأساس ولا قيام لأي مشروعات استثمارية بدونها.
ج- قيام كل من الهيئة العامة للاستثمار والهيئة العليا للسياحة بدراسة الفرص الاستثمارية والسياحية في كل منطقة واتخاذ خطوات تشجيعية جادة للمستثمرين في هذه المناطق مثل منح الأرض مجاناً للمستثمر وإخراج تراخيص الاستثمار بزمن قياسي سريع.. وخاصة مع وجود خطة لتنويع (مصادر الدخل)؛ وأقترح أن يتم التركيز على مجال الاستثمار في (الطاقة الشمسية) و(الطاقة التعدينية) وهذا حسب ميزة كل منطقة.
د- لا بد من إعادة النظر في التوزيع (الديموغرافي للخدمات) في بعض المدن وخاصة العاصمة الرياض فالتكدس السكاني في هذه المدينة وتركز المصالح الرئيسية فيها سبب زحاماً مرورياً هائلاً وضغطاً كبيراً على الخدمات.. لا يمكن حلُّه من خلال (المترو) أو النقل بالباصات.
هـ- لبلادنا ميزة (ديموغرافية) واقتصادية هامة جداً وذلك لأن مساحتها تشبه القارة وتشمل تضاريسها الجبال والوديان والسهول والهضاب والصحارى الممتدة، وهي الامتداد الجغرافي والتنوُّع التضاريسي يمكن أن يكون أحد عوامل التبادل الاقتصادي والتجاري بين المناطق نفسها، ومنا هنا فإنني أنادي بـ(التكامل الاقتصادي السعودي) بين مناطق المملكة أولاً وزيادة حجم التبادل التجاري بينها من خلال التركيز على (الميزة النسبية) لكل منطقة ولنأخذ مثالاً على ذلك منطقة الجوف التي تشتهر بوفرة مياهها وجودة محاصيلها الزراعية فمن خلال وزارة الزراعة ووزارة التخطيط يتم التركيز على تحويل منطقة الجوف إلى سلة غذائية تغذي مناطق المملكة المختلفة بالفواكه الشتوية والزيتون، ويمكن أن يشمل ذلك منطقة تبوك وذلك من خلال خطة تتم خلالها دراسة إمكانية التوسع الزراعي لهذه الغلاَّت ودراسة مخزونات المياه الجوفية وغيرها من العوامل كالطرق الموصلَّة لها مع المناطق الأخرى وأساليب التسويق.
ولنأخذ مثالاً آخر على ذلك: منطقة جازان التي تشتهر بالمانجو والأسماك.. وزارعة المانجو في هذه المنطقة لتسويق إنتاجها إلى مناطق المملكة الأخرى. ولنأخذ مثالاً آخر: منطقة القصيم التي تشتهر بإنتاج (التمور) يتم وضع خطة مشتركة بين وزارة الزراعة وصندوق التنمية الزراعية ووزارة التخطيط لتشجيع إنتاج التمور وتسويقها من خلال هذه المنطقة، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال جهة مشتركة مع مختلف الجهات ذات العلاقة كوزارة العمل التي تهتم بتوفير الأيدي العاملة من (النخَّالين) لجميع من يطلبها من مؤسسات العناية بالنخيل في هذه المنطقة، ومن ثم يتم وضع خطة تسويق بالاشتراك مع الخطوط السعودية وشركات الشحن وغيرها لتسويق التمور إلى مختلف مناطق المملكة.
وبالطبع لا يمكن نجاح (خطة التكامل الاقتصادي) بين مناطق المملكة إلا من خلال شبكة قطارات حديثة وسريعة ولحسن الحظ فالعمل قائم على إنشاء العمود الفقري لهذه الشبكة، كما يجب تطوير المطارات الداخلية وتأسيس شركات للشحن الجوي بين المناطق، والاهتمام بشبكة الطرق البرية ذات الطرق المفردة والمتعرجة والعمل على تكامل هذه الخطة مع خطة وزارة النقل لتطوير شبكة الطرق ووسائل النقل.
و- تقوم وزارة الاقتصاد والتخطيط والممثلة بمجلس الشئون الاقتصادية والتنموية بإجراء موازنات شاملة (خطة شاملة) لتنمية المناطق بناءً على ما ورد من إمارات المملكة (13 إمارة) وتقوم بإعادة تقييم هذه الاحتياجات من منظور (وطني شامل)، فكل منطقة تدرس احتياجاتها من واقع نظرة المنطقة إلى نفسها، ومن ثم يتم إجراء الموازنة بين هذه الاحتياجات والربط بينها من خلال فريق متمكن ومتفرِّغ من وزارة الاقتصاد والتخطيط يقوم بدراسة هذه الاحتياجات والقيام بزيارات ميدانية للمناطق للربط بين كل منطقة وأخرى فلنفترض أن منطقة ما اقترحت وجود جامعة، بينما هناك جامعة أخرى قريبة منها في المنطقة المجاورة لها فتتم زيادة طاقة الجامعة في المنطقة الأخرى لخدمة هذه المنطقة.
ولنفترض أن منطقة ما اقترحت وجود مطار في مكان معين فتقوم وزارة التخطيط بدراسة مواقع المطارات في المناطق المجاورة وتغيير موقع المطار إذا كان قريباً من المطار الآخر في المنطقة المجاورة وهكذا.. إن توازن التنمية بين مناطق المملكة المختلفة سيتيح لنا تبادلاً اقتصادياً داخلياً بين هذه المناطق فمنطقة القصيم تمد الشمال بالتمور والشمال يمد منطقة القصيم والرياض بالفواكه والزيتون، ومنطقة الجنوب منطقة سياحية صيفية والرياض والقصيم منطقة سياحة ربيعية، والمنطقة الشرقية تمد مناطق المملكة بالبترول والصناعات، وهكذا، وذلك سيوفر آلاف الوظائف وفرص العمل وبالتالي الرخاء الاقتصادي، مما يكوِّن لدينا بلداً متوازناً اقتصادياً ذات بنية اقتصادية داخلية متماسكة ومثالية.. ومن ثم إقرار هذه الخطط من قبل (مجلس الشئون الاقتصادية والتنموية) وصولاً إلى الرؤية الطموحة والعبقرية للأمير محمد بن سلمان للتحول الوطني.