م. عبدالعزيز بن محمد السحيباني
تمثل (أزمة السكن) في بلادنا معضلة كبرى بينما هي سهلة الحل، فالمشكلة معروفة لدى المواطن والمسؤول ولا تحتاج إلى دراسات وبحوث وهي عدم توافر السيولة النقدية لدى المواطن لشراء مسكن وبالإمكان حل مسألة التمويل بسهولة من خلال آلية مشابهة لآلية صندوق التنمية العقارية (الذي يجب أن يخرج من معركة السكن) فهو كمن يحاول القيام بدور شركة إسكان بعقلية ممول وهو قطاع بيروقراطي تجاوزت أزمة السكن كل إمكاناته التي كانت مناسبة عندما كان الطلب أقل من العرض أما عندما زاد الطلب على العرض بشكل كبير، فالدور حتما يجب أن يتحول إلى (شركة إسكان) مدعومة من الدول بتوفير رأسمال كبير لها، كما أن وزارة الإسكان يجب أن تنقذ نفسها من الوحل البيروقراطي الذي أغرقها، وهي أقل طاقة منه فلا يمكن لمن هو أقل قوة أن ينقذ غريقا يكافح الغرق لمدة طويلة إلا بأدوات حديثة وفائقة القدرة وهذه الوزارة ينطبق عليها مثل النملة التي سقطت في بئر وحاولت الخروج منه وكلما ارتفعت مترين سقطت مترا وهي تحسب أنها ستصعد البئر ولا تعرف كم مترا تخلفت، فوزارة الإسكان تحاول توفير مساكن لجميع المواطنين الذين ينمو عددهم سنويا ويزداد بنسب نمو تزيد على 3.8 في المائة وهي نسبة نمو مرتفعة عالميا ولاشك أن الطلب على الإسكان يزداد بشكل متسارع وحيث إن المطلوب حاليا يزيد على مليوني وحدة سكنية ولا يحتاج الأمر إلى دراسات أو شركات تدرس (الطلب على السكن) فبمجرد طلب (صندوق التنمية العقارية) التقديم الكترونيا انهالت الطلبات عليه وبلغت نحو المليون خلال أيام قليلة.
وهذا الطلب واجه قلة في العرض على الرغم من التوسع الهائل للمدن ورغم ما قامت به الوزارة من إنشاء وحدات سكنية في مناطق مختلفة من أنحاء المملكة إلا أنها ووجهت بمشكلة عدم توافر أراض مناسبة لمشروعاتها تتوفر فيها الخدمات وتصل إليها مما جعلها تلجأ إلى المناطق الغير مرغوبة للسكن أو بجانب (العشوائيات) وبهذا فهي تساهم من حيث لا تشعر في النمو العشوائي للمدن وغير المبني على دراسة الموقع واتجاهات النمو للمدينة مما ينتج عنه زحاما مروريا وضغطا على الخدمات ومظهرا غير حضاري للمدن، وفي رأيي أن وزارة ألإسكان يمكنها أن تتجه إلى (التخطيط الإستراتيجي) للإسكان لا أن تتولى هي بنفسها أعمال البناء والتوزيع للمساكن وهاهي بنت عددا محدودا من المساكن ووقعت في قضية (آلية توزيع المساكن) فالمستحقون الذين تقدموا بطلب قروض يزيد على 1.5 مليون ولا يغطي ما تم بناؤه إلا عددا محدودا من هؤلاء وستستمر الوزارة في هذا مادام أنها تولت الدور التنفيذي مباشرة وتركت مجال (التخطيط) الذي يجب أن تتولاه من خلال إحداث خطوات تؤدي إلى توافر المسكن وانخفاض سعره مثل جلب المستثمرين الأجانب، وفرض قوانين لتملك المساكن، وتيسير القروض.
المملكة الأعلى في تكلفة المساكن
على الرغم من أننا قارة مترامية الأطراف وتوجد لدينا صحار واسعة إلا أن تكلفة بناء المسكن لدينا وإمكانية تملكه لا تقارن مع دول تردم البحار للحصول على أراض للسكن مثل هونج كونج، ورغم أننا دولة تعتبر الأولى عالميا في تصدير النفط إلا أن 60 في المائة من السكان لا يملكون مساكن، وإذا ما رجعنا إلى المعدلات العالمية للقدرة على تملك السكن أو ما يسمى (مكرر السكن) وهو حاصل قسمة تكلفة المسكن على الدخل السنوي لوجدنا أنه لدينا يزيد على (18) سنة أي أن الموظف الحكومي الذي يصل متوسط راتبه 10.000 ريال شهريا إذا جمع كل راتبه (دون أن يستهلك منه شيئا) لاحتاج إلى أكثر من 18 سنة ليستطيع بناء منزل مناسب بل إنه حتى إذا فرضنا أنه يريد تملك شقة متواضعة (ليست مبنى من دورين ولا تحوي فناء) فإن مكرر الامتلاك يصل إلى أكثر من 8 وهو مرتفع جدا عن المعدلات العالمية، حيث إنه حسب المقاييس الاقتصادية تم دراسته، بحيث يكون معيارا رقميا لسهولة امتلاك المسكن يجب ألا يزيد على 3 ولا تصل أكثر مدن العالم تكلفة مثل نيويورك ولندن وهونج كونج إلى هذا المعدل ويعتبر وصول المعدل إلى 5، مرتفعا جدا ويجب تدخل الدولة لخفضه، فالوصول إلى نسبة تصل إلى (500 في المائة) زيادة عن المعدل المناسب عالميا يكشف أن لدينا خللا غير طبيعي يجب أن يتم حله بأسرع وقت بجهد (قومي) يزيد بكثير عما تقوم به وزارة الإسكان منفردة التي تصفق بيد واحدة.
تجارب وطنية مميزة
تجربة أرامكو «بتوفير مساكن» لموظفيها تجربة رائدة تمكنها من نقلها للوزارات المختلفة - توفير «المسكن» المريح للإنسان من أهم ضرورياته في الحياة، ويجب أن يولى اهتماماً يوازي الاهتمام بالتعليم والصحة.
وكثير من الدول تضع خططاً لتوفير السكن لمواطنيها بحيث تكفيهم همَّ «البناء» والخضوع لجشع التجار وبحيث لا يكون المسكن سلعة للمضاربة، بل إن كثيراً من الدول تقوم بدعم هذا العنصر من أموالها وإيراداتها، فهو عنصر كالغذاء والخبز الذي تدعمه كثير من الدول، وعدم التدخل الحكومي بدعم السكن وتوفير مساكن للموظفين الحكوميين (على أقل تقدير) أوجد عددا من السلبيات أهمها:
أ- عدم تفرغ الموظف لوظيفته الحكومية بالكامل بل إن حاجته الأساسية وهي السكن إذا كانت غير موفرة فيكون همه الأساسي هو توفير هذا السكن بدلاً من إعطاء اهتمامه وجهده لوظيفته الحكومية، أو حتى في القطاع الخاص، مما أهدر كثيراً من طاقات الموظفين وجهدهم وتفكيرهم بل وأوقاتهم وجعلها تطيع هدراً في التخطيط لتوفير مساكن لهم بل والاستدانة والاقتراض الذي جعلهم يرزحون تحت الديون، وهذا الهدر لاشك أنه عطل كثيراً من الإبداعات والطاقات، وبالتالي انعكس هذا الهدر على الناتج المحلي والقيمة المضافة للاقتصاد الوطني من هذا العامل أو الموظف.
ب- نمو المساكن العشوائية بل و»المخططات العشوائية» في داخل المدن وفي تخوم المدن، حيث يضطر العامل أو الموظف سواء كان بالقطاع الخاص أو الحكومي إلى بناء مسكن بدائي له بما يتوافر بيده من سيولة مادية، أو الخضوع للقروض والاستدانة مما يبتلع إيراداته وقدراته.
ج- ظهور «سوق بناء» للمساكن على مستوى رديء حيث إن المباني تبنى من خلال مقاولين بدائيين وبخبرات فنية متواضعة، بل إن المواد المستخدمة في البناء تجلب من مصانع (خرسانة) رديئة الإنتاج ولا تخضع لأي رقابة فنية، مما أنتج مساكن رديئة البناء ومتنافرة الأشكال.
وخروجاً من هذه القضية فلابد من اعتبار «المسكن» أحد حاجات الإنسان الأساسية وخاصة العاملين والموظفين واعتبار السكن أحد مشروعات «البنية التحتية» التي تولى اهتماماً كبيراً، بل واعتباره حاجةً مثل حاجات «التعليم» و»الصحة» وهذا لا يأتي إلا من تدخل الدولة نفسها فبناء مدن سكنية يحتاج إلى تمويل ضخم كبير ولا يستطيع توفير مثل هذا التمويل إلا الدول، ولا يجب أن يخضع توفير هذا التمويل لاجتهادات الشركات أو المستثمرين ذوي الإمكانات المتواضعة أو رؤوس الأموال القليلة فالإحصاءات التقديرية تقدر حاجة البلاد إلى مليوني وحدة سكنية ومن المستحيل بناء هذا العدد خلال سنة واحة ولكن يمكن وضع خطة كبرى لبنائها خلال 5 سنوات أي 400.000 وحدة سكنية سنوياً، وببناء هذا العدد بشكل سنوي يمكن الوصول إلى حل لأزمة السكن، ومعروف أن معظم المواطنين إما موظفين حكوميين أو عاملين في القطاع الخاص.
الجهات الحكومية وبناء المساكن
- أن تقوم كل الجهات الحكومية بتوفير قروض لموظفيها (لشراء مساكن) وليس (بناء مساكن) فبناء مسكن يمثل لوحده إشغال الموظف عن مهام وظيفته فما من موظف حكومي إلا ويعطى على اهتمام سكنه وبناء مسكن وكيفية الإقراض له.
أ- أن تقوم الهيئة العامة للاستثمار بتشغيل شركات وطنية قادرة مثل (أرامكو) لبناء مخططات سكنية لكل جهة حكومية.
ب- تقوم الجهات الحكومية بشراء هذه المخططات من (الشركة المنفذة) وتكون هي الضامنة لتسديد قروض (شراء المساكن) لموظفيها، حيث تقوم بالحسم من رواتبهم أو أن يقوموا بشرائها نقداً. ويشترط أن تكون بسعر التكلفة مقابل دعم من الدولة لشركات بناء المساكن بنسبة 10 في المائة تقريبا من تكاليف البناء.
ج- بعض الجهات الحكومية التي تصرف (بدل سكن) لموظفيها وهذا البدل يتم استهلاكه في إيجارات دون أن يتمكن الموظف من تملك سكن بذلك، تقوم بتقسيط هذه المساكن على موظفيها، أو صرفها لهم بدلاً من صرف بدل السكن، وحيث يتداول حاليا ويطالب الكثيرون ببدل سكن ففي رأيي أنه غير مجد في ظل اللهيب الذي يشبه الحريق لأسعار الأراضي والسكن وسيحرق بدل السكن هذا وسيتجه فورا إلى جيوب تجار المواد الغذائية.
اقتراح بإنشاء (شركة شبه حكومية ومساهمة لبناء المساكن)
وإذا اعتبر «السكن» والقطاع السكني أحد قطاعات البنية التحتية المهمة، مثل: الطرق، الكباري، الجامعات والمستشفيات، فلابد من تدخل الذراع الاستثمارية للدولة لانتشال السكن والقطاع السكني من وهدته ومن تخلَّفه.. تماماً كما قام «صندوق الاستثمارات العامَّة» بانتشال مشروع «السكك الحديدية» من الفشل وقام بتمويل تنفيذ هذا المشروع الذي طرح بالاستثمار عدة مرات ولم يجد من يقوم بتنفيذه فضلاً عن استثماره، وذلك أن «صندوق الاستثمارات العامة» يملك رأس المال يقدر بآلاف «المليارات» وهو الجهة الوحيدة التي تستطيع تمويل مشروع ضخم ينتشل السكن من حالته المخنوقة حالياً ويحلِّق به في الأعلى من حيث إنه بمجرد حساب بسيط يتضح لنا حجم الاستثمار في القطاع السكني خلال 5 سنوات مقبلة، وبما أن التقديرات تقدر الحاجة إلى مليون وحدة سكنية خلال 5 سنوات وبمعدل (400.000) وحدة سكنية سنوياً وتكلفة هذا الاستثمار الضخم تقدر بـ1000 مليار خلال 5 سنوات، و200 مليار سنوياً ولا يمكن تبني هذا الحجم الكبير من الاستثمار من خلال مقاولين محليين أو حتى بنوك محلية، أو من خلال صندوق التنمية العقارية الذي يعاني من تراكم مئات الآلاف من طلبات القروض من المواطنين لديه التي يزيد زمن التقديم لها على 20 عاماً سابقة.. فلا مناص من تدخل الدولة بكل ثقلها وتمويلها لانتشال السكن من أزمته من خلال «صندوق الاستثمارات العامَّة» وحسب الآلية الآتية:
أ- يقوم «صندوق الاستثمارات العامَّة» بطرح مشروعات البنية التحتية للمدن السكنية وليس «الأحياء السكنية» بمنافسة عامَّة يدخلها مقاولون عالميون مؤهلون وشركات عالمية ذات خبرة في مجال تنفيذ المشروعات السكنية، وذلك من خلال تأسيس شركة وطنية كبرى تتبع للصندوق تسمى «شركة بناء المساكن»، وهذه الشركة تملك الخبرات الهندسية والفنية لتأسيس وبناء المساكن بجميع خدماتها وتطرح مشروعات المدن السكنية في منافسات عامة، حيث ستكون تكلفة بناء الوحدة السكنية إذا كانت من مجموعة ضخمة أقل من تكلفة البناء الفردي، وحيث إن التكلفة الحقيقية لبناء مسكن مناسب (للأسرة السعودية) لن تزيد على 300.000 ريال ومثلما ذكرت عن (مكرر السكن) الذي يزيد بنسبة 500 في المائة على المعدلات العالمية والخلل لدينا بسبب أن السكن لدينا فريسة سهلة لتجار الأراضي الذين يجدونها الملاذ الآمن للاستثمار والقناة المربحة الوحيدة في ظل عدم لجمهم ولجم المفترسين للمواطن المستغلين له من تجار مواد البناء بالتجزئة (الحديد والإسمنت) ولا بد من تدخل الدولة وإبعاد المواطن عن هؤلاء المفترسين له بالسوق من خلال إنشاء شركة حكومية تحت مظلة صندوق الاستثمارات العامة بمسمى (شركة المساكن) ويمكن دراسة تحويلها إلى شركة مساهمة إذا كانت ذات ربح يبتعد عن جشع التجار ولأن الدولة يجب أن توفر الأرض والبنية التحتية وتتعاقد مع شركات عالمية للبناء وقد يقول البعض إن السكن ليس ذا صفة استثمارية، وأقول إن ذلك صحيح إذا قيس الاستثمار بطريقة مباشرة ولكن إذا نظرنا إلى الأثر المباشر لارتفاع تكلفة السكن وأثرها على الاقتصاد ورفع نسبة التضخم لعرفنا أن الإنفاق عليها من الدولة هو أهم مجالات الاستثمار وأكثر فائدة للاقتصاد، حيث ستعود بالرخاء على الوطن والمواطن وستزيد من الناتج المحلي بشكل كبير.
ب- بعد انتهاء البناء الذي يوضع له برنامج تنفيذي شامل وسنوي يشمل جميع أنحاء المملكة وخاصة المدن الرئيسية، ويقوم «صندوق التنمية العقارية» بتقسيط هذه المساكن على المواطنين بعد أخذ الشروط والضمانات اللازمة لتسديد هذه القروض «قروض التكلفة»، وذلك إما باستخدام نظام الرهن، أو الحسم من المرتب إذا كان طالب القرض موظفاً حكومياً أو خاصاً، ولعل صدور نظام «الرهن العقاري» صار منظماً لمثل هذا التمويل المربح استثمارياً. وذلك أن تكلفة البيع ستكون أقل من قرض صندوق التنمية العقارية نظراً للمقاولات الفردية في البناء حالياً.
أما الحلول الجزئية للإسكان التي بدأت باتخاذها (وزارة الإسكان) فهي حلول وقتية لا تبنى على استراتيجية عامَّة لحل أزمة السكن لجميع المواطنين، وكذلك ما يتم اتخاذه من قبل (المطوِّرين العقاريين) أو الشركات الاستثمارية من خلال بناء (أحياء فخمة) وراقية تختص بشريحة الأغنياء، (أحياء متواضعة) للطبقة ذات الدخل المحدود جداً، وتبقت (الطبقة الوسطى) وهي الطبقة الأكثر عدداً والأكثر تضرراً من إيجارات السكن ولو قامت بجمع إيجارات السكن لما يقل عن 15 سنة لوفرت تمويلاً لبناء مسكن خاص وعصري بدلاً من استهلاك دخلها في ارتفاع إيجارات المساكن، وهذا يؤكد الأهمية الكبرى لتدخل قطاع حكومي مهم من خلال وزارة الإسكان وصندوق الاستثمارات العامة لكبح جماح هذه الأزمة وخفض تكلفة المعيشة للمواطن السعودي وحل أزمة خانقة تلوح في الأفق وخطوات مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية الذي يرأسه الأمير الهمام العبقري الأمير محمد بن سلمان ونظرته الثاقبة للتحول الوطني عام 2020م، تؤكد أننا أمام فجر نهضة جديدة تهتم بسكن الإنسان السعودي ومعيشته.
أتمنى أن يكون هناك مبادرة وطنية (ضخمة) يتبناها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية ومجلس الوزراء الموقر وإلا فسنظل ندور في حلقة مفرغة وسيزداد التضخم ويختنق الاقتصاد ولن نصل إلى حل حقيقي لأزمة السكن.