م. عبدالعزيز بن محمد السحيباني
(المشاريع المتعثرة).. صارت سمة من سماتنا التنموية وقلَّ أن نجد مشروعاً إلا ويُطلق عليم اسم مشروع متعثر حتى المشاريع الصغيرة، والسبب يرجع إلى أن المشاريع لا تتطلب فقط مقاولاً للتنفيذ يملك معدات وعمالة، وإنما يتطلب جهداً جماعياً من كل الوزارات المعنية، فليس من المعقول أن تتحمّل وزارة الصحة مثلاً مسؤولية تعثُّر المشاريع بينما تقوم وزارة العمل بتقليص فرص الاستقدام، أو أن تقوم مصلحة الجمارك بمنع استيراد المعدات، أو أن تقوم شركة أرامكو بتقليص إنتاج البيتومين لمشاريع الطرق، أو أن تقوم وزارة المالية بعدم صرف مستحقات المقاولين، فهذه القضية ذات مشكلة لها جذور متشابكة، ولا بد أن تحل بشكل جماعي، ولا أعتقد أن المشكلة هي في (نظام مشتريات الحكومة وتنفيذ مشروعاتها) الذي يعطي الأولوية في الترسية للمقاول الأقل عطاء فهذا الشرط يضمن عدم مساهمته في التعثر وجود المنافسة بين المقاولين وأن النظام تكفّل بسحب المشروع من المقاول المتعثّر.. وإنما تعود إلى عدم وجود جهد جماعي بين مختلف الوزارات لحل هذه المشكلة، فحين أقدمت وزارة العمل على تقليص نسب استقدام العمال بهدف تشجيع السعودة لم تعلم أنه لو عمل كل السعوديين المؤهلين والمطارات وسكك الحديد!!!
(تعثُّر المشاريع) أصبح قضية القضايا ومشكلة المشاكل في وقتنا الحالي حيث لا يوجد ولا مشروع واحد (ما عدا النادر) إلا ويطلق عليه مشروع متعثر وهو المشروع الذي تجاوزت مدته المحددة ولم ينفذ منه أكثر من 50% (حسب التعريف الإداري والفني) وفي رأيي أن هذا التعريف غير دقيق لأن المدة تحدد افتراضاً، فالمشروع الصغير يعامل مثل الكبير في المدة، وفي رأيي أن المشروع المتعثر هو الذي يتوقف العمل فيه دون أي عائق كبير أو يتجاوز المدة (الافتراضية له) بنسبة تزيد على ضعف المدة الأصلية وذلك لضمان سلامة تقدير المدة ونتعجب حين نرى وصلة صغيرة في طريق تأخذ سنوات في التنفيذ معيقة لحركة المرور ومؤخرة للحركة الاقتصادية بتكاليف باهظة تفوق تكلفة تنفيذ هذه الوصلة بينما لا يتطلب إنجازها أياماً, ونرى في بلدان أقل منا نمواً ومواردَ تنجز فيها المشاريع بسرعة ولا نرى فيها هذه المناظر المؤذية من المشاريع المتأخرة لسنوات طويلة.
وقد سعت الدولة - أيدها الله - لحل هذه المشكلة بوضع لجنة في الديوان الملكي لمتابعة أسباب تعثر المشاريع الكبرى وهي خطوة موفقة, ولكن معرفة المشكلة نصف الحل, فالمشكلة ليست فقط في المقاول فهو أداة تنفيذ فقط ولكن المشكلة تدخل فيها العديد من العوامل المكونة للمقاول نفسه فليس هناك مقاول يصنع المعدات بنفسه فلا بد من استيرادها, وليس هناك مقاول ينفذ طريقاً داخل المدينة متجاهلاً حركة المرور وخطوط المياه والكهرباء والهاتف.
وليس هناك مقاول ينفذ بدون وجود تمويل مالي مستمر له, وليس هناك مقاول ينفذ مشروعاً دون وجود نظام واضح يحفظ حقوقه من عقود الإذعان ومن عديمي الضمير وممتهني الفساد والرشوة, وليس هناك جهة تنفذ مشروعاً وهي مكتوفة الأيدي أمام مقاول مهمل ومستغل للمرونة في الصرف على المشاريع، وليس هناك مدينة تنمو وهي لا تعرف هل تبدأ بالماء أو الصرف الصحي أولاً.. أم الخدمات البلدية من سفلته ورصف وإنارة، بل لا بد من وجود (مجلس تنسيقي) لكل مدينة يحدد أولويات نموها ويشرف مباشرة على تنفيذ جميع مشاريعها.
أولاً: من الناحية الفنية:
أ - إيجاد وظائف مؤقتة لخبراء كبار في مجالات دراسات المشاريع وتنفيذها في كل وزارة حكومية تعاني نقصاً في الكادر الفني لها، وتكون هذه الوظائف ذات خبرات كبيرة في مجال المشاريع ومهارات فنية عالية برواتب مقطوعة ومؤقتة ولتكن سنوية مثلاً.. أو بعدد سنوات المشاريع الكبيرة (3 سنوات مثلاً)...
ب - إيجاد حوافز تشجيعية للمهندسين والفنيين المشرفين على المشاريع... فليس من المعقول أن نساوي بين مهندس يشرف على مشروع بقيمة 100 مليون ريال ويحتاج إلى جهد كبير في المتابعة... مع مهندس لا يشرف على أي مشروع - وليكن الحافز بحجم الإنجاز... فإذا تم إنجاز المشروع بجودة عالية وبوقته المحدد يحصل هذا المهندس والفني على راتب 3 أشهر (على سبيل المثال) وذلك لخلق حوافز تشجيعية...
ج - مع الحجم الكبير للمشاريع إلا أن الإدارات الفنية والهندسية في الدوائر الحكومية ظلت على وضعها بدون أي تطوير... ولم يتم دعمها بشكل موازٍ للدعم الهائل للمشاريع.. فالكوادر البشرية والفنية في الإدارات الحكومية هي الذراع التنفيذية للمشاريع ويجب دعمها بإيجاد وظائف فنية متميزة بها حيث يصعب التعامل مع الهياكل الوظيفية حالياً في ظل زيادة الاعتمادات المالية للمشاريع... بل إن بعض الموظفين كالفنيين والمهندسين في هذه الإدارات يظل يطارد وراء ترقيته التي يستحقها ولا يجدها بسبب شح الترقيات، ولهذا يجب تطوير هذه الإدارات بترقية منسوبيها.
ومن هنا، فإنني أرى أن يتم إنشاء وحدة مستقلة في كل وزارة تكون مرتبطة مع الوزير مباشرة أو بمكتب الوزير نفسه بمسمى (وحدة متابعة المشاريع). ويكون من أهم مهامها:
1 - إيجاد حوافز تشجيعية لفروع الوزارات الأكثر إنجازاً من خلال الإحصائيات السنوية لإنجاز المشاريع مثل دعم الهيكل الوظيفي للأفرع، وترقية الموظفين المتميزين مثل المشرفين على هذه المشاريع والمتابعين لإنجازها وذلك لإعطاء حافز مادي ومعنوي كبير للفروع الأخرى لإنجاز مشاريعها ومتابعتها باستمرار وإيجاد الحلول لتعثرها حتى خارج وقت الدوام الرسمي. وهذا لا شك سيخلق جواً من التنافس والتدافع نحو إنجاز المشاريع بروح طيبة، وسيوفر على الدولة آلاف الملايين من الريالات التي تذهب هدراً في مشاريع متوقفة أو غير منجزة، وسيكون لنا مشاريع بنية تحتية رائعة ومتميزة ومنفذة باحترافية وعلى مستوى عالٍ من الإتقان والجودة.
2 - إعطاء مزيد من الصلاحيات لفروع الوزارات في البت في سحب المشاريع واعتماد المشاريع التي تصل إلى 50 مليون ريال وإعطاء حوافز ومكافآت للمساهمين في تسيير المشاريع وحل مشاكلها من موظفين وخبراء وحتى مواطنين!!!.
ثانياً: من الناحية التصميمية:
أ - التصميم غير الدقيق يكلِّف أموالاً طائلة ويستهلك اعتمادات المشروع في أعمال غير أساسية في المشروع وستذهب اعتمادات المشروع هدراً في بنود لا تخدم الوظيفة الأساسية للمشروع، أما في حالة وجود تصميم دقيق من قبل مكاتب هندسية ذات خبرة عريقة في هذا المجال فسيتم بذلك مراجعة التصميم عدة مرات ومنها الهندسة القيمية التي توفر ما لا يقل عن (20%) من الهدر الذي سيحصل في حالة عدم وجودها.
ب - سيكون سبباً رئيساً في إنجاز المشروع دون عوائق حيث إن التصاميم التي تُعد من قِبل الجهة المالكة أو من قبل مكتب هندسي غير مؤهل سيخالف الواقع وبالتالي وجود العوائق الكثيرة التي تؤخر إنجاز المشروع.
ت - بوجود تصميم دقيق وواضح يمكن حساب كميات وبنود أعمال المشروع قبل اعتماد مبلغ له في الميزانية وقبل طرحه في المنافسة وبالتالي الوصول إلى آلية واضحة ودقيقة بين الجهات الحكومية ووزارة المالية في اعتمادات المشاريع واعتماد مبالغ قريبة من الواقع لها بدلاً من (التخمينات) التي تصاحب كثيراً من اعتمادات المشاريع التي تفاجأ الجهة إما بزيادتها عن المطلوب أو أنها تقصر كثيراً عن أعمال المشروع مما يكون سبباً في تأخُّره وعرقلته.
ثالثاً: من الناحية القانونية والتنظيمية:
ويمكن أن يتم إجمال الملاحظات (الجوهرية) بما يلي:
أ - زيادة مدة الضمان النهائي إلى 10 سنوات على الأقل.
ب - زيادة الضمان النهائي نفسه إلى (10%) على الأقل.
ج - أو أن يقوم المقاول المنفذ بصيانة المشروع لمدة 10 سنوات من تنفيذه.
ومن الغريب أن النظام نفسه فيه فقرتان متناقضتان حول ماهية الضمان النهائي وهو (5%) وهو ضمان حسن التنفيذ ولم ينص النظام نفسه على مصادرة هذا الضمان للتنفيذ على حساب المقاول في حالة إخلاله بإصلاح الملاحظات في سنة الضمان ففي المادة (الثالثة والثلاثون) الفقرة ج (يجب الاحتفاظ بالضمان النهائي حتى ينهي المتعاقد التزاماته وفي عقود الأشغال العامة حتى انتهاء فترة الصيانة وتسلم الأعمال التسليم النهائي).
ومن المعروف أن سنة الضمان أو الصيانة هي سنة واحدة تبدأ من تاريخ الاستلام الابتدائي وقد تظهر كثير من العيوب بعد سنة، فسنة واحدة غير كافية لإظهار عيوب كثير من المشاريع مثل تطاير الإسفلت وتصدع الخرسانة، وهذه الفقرة تتناقض مع المادة (السادسة والسبعون) والتي تنص على: (يضمن المقاول ما يحدث من تهدم كلي أو جزئي لما أنشأه خلال عشر سنوات من تاريخ تسليمه إياه للجهة الحكومية تسليماً نهائياً متى كان ذلك ناشئاً عن عيب في التنفيذ).. فما دام أن العيب سيظهر خلال السنة الأولى أو خلال 10 سنوات فما هو الفارق بين سنة الضمان وهذه العشر سنوات.. ولحل هذا التناقض فإنه لا بد من تحميل المقاول المنفذ نفسه أعمال الصيانة لمدة (10 سنوات) بدءاً من تنفيذ المشروع أي (دورة المشروع) وذلك لضمان فرض رقابة ذاتية من المقاول المنفذ حتى ولو تم زيادة تكاليف المشروع نفسه فإن ذلك سيحقق هدفين أو أكثر:
(1) تنفيذ مشاريع على مستوى عالٍ من الجودة.
(2) توفير كثير من الأموال التي تذهب هدراً بسبب تنفيذ مشاريع على مستوى متدني من الجودة... فما دام أن الأمر كذلك فلماذا لا يتم زيادة تكاليف المشروع نفسه وتوفير هدر الأموال في الصيانة.
(3) توفير كثير من الأموال والجهد في الاختبارات والتعاقد مع مكاتب استشارية وتعطيل كثير من المشاريع لفحص جودة الأعمال وضمان إنجازها بسرعة من قبل مقاول مؤهل ولن يتقدم لمثل هذه المشاريع حتماً إلا المقاول المؤهل فنياً.
1 - غرامة التأخير (10%) يجب أن تذهب لصندوق يُسمى (صندوق تحسين الإشراف) فيستفاد منه بالجهة الحكومية نفسها لتطوير طاقم الإشراف وإمكاناته، فلو لم توجد مخالفات وتجاوزات لما تم فرض غرامة التأخير والإشراف، وبهذا يتم إيجاد حوافز للجهة نفسها على جودة الإشراف.
ولهذا فمن الضروري وضع حافز تشجيعي للمشروع المنجز قبل نهاية مدته.
أ - عدم تعثر المشاريع بسبب طرحها دون دراسة حيث لا تملك الجهات الحكومية الخبرة في الدراسة والتصميم وتحديد جداول الكميات.
ب - جودة التنفيذ.
ت - تقليل التكاليف في الصيانة والإشراف.
ث - إن التنافس على العطاء الأقل يعطي مجالاً للمقاول بتنفيذ مشروع على أدنى حدود الجودة أو ربما بدونه.
7 - عدم وجود المنفذ الماهر للمشاريع سبب كبير لتعثرها، وبالتالي فلا بد من الترخيص للشركات الأجنبية لتنفيذ المشاريع مع عدم خضوعها لنظام المقاول المحلي الذي أثبت فشله في تنفيذ كثير من المشاريع وسعيه لجني أكبر عائد من المشروع حتى ولو على حساب الجودة.
كما أن دمج عدد من شركات التنفيذ في شركة واحدة قادرة مالياً وفنياً لكل وزارة كفيل بالتدخل لإنقاذ المشاريع من التعثر.
8 - من العوائق الكبرى لتنفيذ كثير من المشاريع وجود شبكات الخدمات التي يتم تمديدها في مواقع المشاريع وبخاصة الطرق والكباري وهذه لا شك خدمات تهدف لخدمة المواطن ولكن عدم التعامل معها بجدية تعثر المشاريع تعثراً كبيراً فلو فرضنا أن نفقاً تنفذه وزارة النقل يعترضه كيبل هاتف صغير سيتطلب جيشاً من المنسقين بين وزارة النقل والشركة المسؤولة عن الكيبل والتي ستفرض شروطاً تعجيزية وتكاليف باهظة لترحيل الكيبل والسبب في ذلك ببساطة أن الخدمة التي تعني هذه الشركة هي الاتصالات الهاتفية والخدمة التي تعني وزارة النقل هي تنفيذ النفق وكل جهة تهتم بخدمتها هي فقط وعدم توحيد المسؤولية أوجد هذا التنافر واللا مبالاة وأخّر كثيراً من المشاريع، وبالتالي لا بد من اتخاذ قرار حاسم لمثل هذه الحالات بتوحيد المرجعية الإدارية وأرى أن يكون الحاكم الإداري هو المسؤول المباشر في هذه الحالة وهو (أمير المنطقة) والذي يجب أن يكون قراره حاسماً في حل مثل هذا (التضاد الإداري) في الأهداف والمرجعيات في تنفيذ المشاريع الهامة والتي نخسرها سنوياً وتتعثر لعدم وجود مرجعيات موحدة وقرارات حاسمة لها.
هذه بعض الرؤى حول حلول مقترحة لتعثر المشاريع التي يدفع الوطن فاتورتها، وأجزم بإعطائها الاهتمام من الجهات المسؤولة وبخاصة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية الذي يُوحّد الجهات المسؤولة عن التنمية وينسق بينها ويهتم بهذا الجانب التنموي لبلادنا العزيزة.