م. عبدالعزيز بن محمد السحيباني
الهندسة هي الأساس الذي تُبنى عليه نهضة الدول، وكل دول العالم توليها اهتماماً منقطع النظير، فالتعليم الهندسي المتطور والخطط الهندسية الفنية المتقنة هما الأساس الذي تبنى عليه البنية التحتية لنهضة أي دولة واقتصادها، فلا اقتصاد ناجحاً ومتطوِّراً من دون هندسة، وخير مثال على ذلك اليابان كيف نهضت من تخلُّفها بعد الحرب العالمية وكيف صارت نموذجاً يحتذى للدول المتطوِّرة التي نهضت من ركام الحروب والتخلف. لقد أرسلت عدداً من مهندسيها ليتعلَّموا صناعة «المحركات» وهندستها في «أوروبا» ولم يعيدوا اختراع المحرِّك، ولم يخترعوا المحرِّك بل أحسنوا تعلُّم «هندسة المحركات»... إن أي دولة تنشد التطوُّر لا بُدَّ من أن تضع قاعدة عريضة «للهندسة»... ونحن حتى تاريخه فإنَّ «القطاع الهندسي» لم يتم فطامه ولا يزال يخترع العجلة والمحرك من جديد، ولا زال يعتمد على القطاع الهندسي الأجنبي في كل شيء، فلا بد من مشروع كبير لتأسيس قطاع هندسي قوي يكون هو عنصر الأساس في النهضة التنموية التي تشهدها بلادنا، ولا نريد أن ندفع الفاتورة مرَّتين، فقد دفعنا فاتورة ضخمة في الطفرة الأولى حين انهالت علينا موارد النفط فجأة، فاستقدمنا آلاف المهندسين الأجانب الذين أشرفوا على تنفيذ مشروعات البنية التحتية من جامعات، ومطارات، وطرق، وكباري، ومستشفيات، ووزارات، وموانئ ومبانٍ وغير ذلك، ولكن ها نحن ندفع ضريبة عدم البناء لقطاع هندسي وطني، حيث إن معظم البنى التحتية أخذت في الانهيار تدريجياً، فقد أنشئت كثير من المدن بدون شبكات لتصريف مياه الأمطار ودون شبكات للصرف الصحي، والطرق تم إنشاؤها دون أي معايير أو مناسيب، وذهب هؤلاء إلى بلدانهم وأمنوا من العقاب والحساب ولا أعمم فبعض المشروعات نفذت على جودة عالية.
إن الهندسة هي اللبنة الأولى للاقتصاد والناتج القومي، فبالإمكان مثلاً: إنشاء كبري بدون علم الهندسة وبدون حساب للقوى والأعمال وكميات الحديد والإسمنت ولكن بدلاً من أن يكون بمليار ريال يتم تنفيذه بـ 3 مليارات ريال، وبالإمكان إنشاء طريق بدون دراسة هندسية والإبقاء على منحنياته ومرتفعاته (لتخفيض التكاليف) ولكن سيكون مصدراً لحوادث مروِّعة وسيستنزف الكثير في التعديلات اللاحقة له، ولكن بوجود تخطيط هندسي سيتم - بإذن الله - تجاوز كثير من الآثار السلبية التي تنجم عن التنفيذ العشوائي لمثل هذا الطريق.
ان حوادث غرق المدن بمياه الأمطار لم تكن فسادا وإنما (سوء تخطيط)، حيث بنيت المدن والتهمت الأودية قبل تسوية طرقها فجاءت المباني وخدمات المياه والكهرباء أولا ثم تم التفكير بسفلتة الطرق التي خضعت لمناسيب البناء، وبالتالي صارت مصدرا للكوارث وبالتفكير الهندسي الواعي، كان بالإمكان تفادي هذه المشاكل!!!
إن «الهندسة والاقتصاد» صنوان متلازمان فبدون وجود خطط هندسية مبرمجة سيكون التخطيط العشوائي «بالوعة» تستنزف كل الاعتمادات المالية وكل ما تنفقه الدولة من مليارات لبناء البنية التحتية. وفي هذه المرحلة التي نمر بها وهي مرحلة بناء ستنفق فيها المليارات على مشروعات البنى التحتية نحتاج إلى بناء قاعدة وطنية هندسية كبرى تكون كأداة تحكَّم في إعادة بناء هذه الثروة وتحويلها إلى مشروعات ناجحة، ومن ثم العمل على المحافظة عليها وتشغيلها والاستفادة منها، فإذا أنفقنا 10 في المئة من حجم الإنفاق على المشروعات فلا شك أننا سنوفِّر ما يزيد على 40 في المئة من حجم هذا الإنفاق الذي كان يذهب هدراً بسبب عدم وجود قاعدة فنية وطنية هندسية تقوم على بناء البلاد بأكملها.
وعليه فإنني أتمنى بروز مشروع وطني كبير وسامٍ باسم قائد النهضة وباني البلاد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز باسم (مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان للنهوض بالقطاع الهندسي السعودي).. وأتمنى أن يشمل هذا المشروع عدداً من المحاور أهمها:
1 - قطاع التعليم الهندسي:
التعليم الهندسي لدينا يتم من خلال كليات الهندسة التابعة للجامعات وهو تعليم لا تزال الفجوة بينه وبين الواقع كبيرة جداً، فلا تزال كليات الهندسة تعلم الهندسة بمفهومها النظري البحت وتركز على نظريات الكيمياء والرياضيات والفيزياء، والتي تهدف إلى تخريج علماء في هندسة الفيزياء، والحركة، وغيرها دون تطبيق لما تحتاجه على أرض الواقع، فما تحتاجه على أرض الواقع لا يتطابق مع ما تحتاجه الدول المتقدمة جداً والتي سدَّت الفجوة بين التعليم الهندسي والواقع، ثم بدأت بتعليم أساسيات الهندسة لتخرِّج علماء للاختراعات ولأننا لم نصل بعد إلى هذه المرحلة، فحاجتنا هي تعليم هندسي اقتصادي يهتم بإدارة الثروة النفطية ويوظفها كبنى تحتية لخدمة السكان وبناء مرافق الدولة المختلفة من مطارات ومستشفيات، وطرق، وجسور، وكباري، ومدن سكنية، إن مثل هذا المشروع سيربط بين ما نحتاجه على أرض الواقع وبين مناهج التعليم في كليات الهندسة وذلك بتقييم المنهج والأسلوب التعليمي النظري الذي لا يزال في واد وما تحتاجه البلاد في وادٍ آخر.
2 - التدريب الهندسي:
بعد أن يتخرج المهندس من الكلية يتم زجَّه فوراً في سوق العمل سواء كان في القطاع الحكومي أو الخاص، وما سأتحدث عنه هو التدريب في القطاع الحكومي، أما القطاع الخاص فلديه خطط للتدريب ولنأخذ مثالاً على ذلك شركة أرامكو، أما القطاع الحكومي فإنَّ المهندسين لديهم يدمجون مع آلاف الموظفين المعينين على سلم الموظفين العام ويضيع تخصصه ومهامه وأدواره وسط آلاف الموظفين والإدارات والهياكل الوظيفية، ولا يعرف ما دوره الأساسي حيث لا توجد هياكل وظيفية راسخة في الوزارات، بل ولا يحصل على أي دورة تدريبية توضح مهامه ودوره، وعليه فإنني أرى أن يَتمَّ ما يلي:
أ - ألا يقوم «المهندس الحكومي» في سنته الأولى بأي أعمال تنفيذية بل يتم ابتعاثه من قبل الجهة التي يعمل بها بدورة تناسب العمل المسند إليه تماماً، فإذا كان مهندساً يشرف على مبان فيتم ابتعاثه لدورة داخلية إلى أحدى الجهات المتطوِّرة (أرامكو مثلاً) أو دورة خارجية يجيد من خلالها الإشراف على التنفيذ والتصميم للمباني، أما ما يتم حالياً فهو تحويل المهندس إلى إداري يكتب الخطابات ويوقع على المستخلصات دون إشراف فني أو حتى حساب للكميات والتي هي الأساس والرقم الصعب في أي مشروع، فبدون حساب لكمياته بدقة فسيكون هناك مجال للتلاعب ولضعاف النفوس من استشاريين ومقاولين.
أما المهندسون على رأس العمل فلا يوجد أي خطط لتدريبهم وصقل مهاراتهم، وما يوجد فعلاً هي دورات معهد الإدارة العامة الذي أسس لتدريب موظفي الدولة تدريباً إدارياً و(ليس فنياً)، حيث إن هذا المعهد مختص بالتطوير الإداري وليس (الهندسي) وليس هناك قطاع غيره للتدريب لدينا، ويعاني المهندس من عدم وجود خطة تدريبية في الوزارات لتدريب مهندسيها، بل إن مخصصات التدريب هي مخصصات ضئيلة لا تكفي ولا حتى الموظفين المدنيين الإداريين، وشخصياً فإنني دفعت على حسابي الخاص آلاف الريالات كرسوم لدورات تدريبية التحقت بها وذلك بحجة أن النظام لا يسمح بدورات إلا بمعهد الإدارة العامَّة.. أما الدورات الخارجية للمهندسين الحكوميين فهي صعبة جداً ولا يمكن الحصول عليها إلا بالوساطات، حيث إن مخصصات التدريب ضئيلة جداً ولا بد من موافقة الوزير المختص عليها، فكيف سينهض القطاع الهندسي بدون وجود خطط تدريبية للمهندسين.
إنني اقترح أن يشتمل هذا المشروع على وضع خطط تدريبية للمهندسين السعوديين على رأس العمل وذلك بابتعاثهم لدورات تمتد لعدة أشهر في دول متقدمة في المجال الهندسي، تماماً كما تعمل الجامعات لدينا بابتعاث المحاضرين لديهم للحصول على الماجستير وغيره، المهم ابتعاث المهندسين (دون استثناء) للحصول على دورات تدريبية متخصصة في مجال أعمالهم فالإنفاق على التدريب سيعود علينا بقيمة مضافة للاقتصاد الوطني فإذا كان لدينا مهندس متدرب على إدارة المشروعات، وعلى قراءة الخرائط وحساب تكاليف المشروعات وعلى جودة المواد واختباراتها، فسيكون ذلك توفيراً في الهدر الذي ربما يحصل بسبب عدم وجود مهندس غير متقن لجميع مهام المشروع.
ب - إيجاد باب مستقل في الميزانية لكل وزارة بمسمى (التدريب الفني الهندسي) يتم من خلاله وضع خطط تدريبية لمهندسي كل جهة حكومية.
3 - دعم الهيئة السعودية للمهندسين:
الهيئة السعودية للمهندسين يجب أن تقوم بدور بارز في تطوير مهنة الهندسة وفي رعاية المهندس وتطوير قدراته، ولكنها بدون إمكانات مالية وبشرية لا يمكن أن تنهض بدورها حيث تعتمد ميزانيتها على اشتراكات المهندسين أنفسهم، ولتنهض هذه الهيئة بدورها فلا بد من دعم الدولة بميزانية سنوية لها تمكنها من تنفيذ أدوارها المأمولة منها.
4 - كادر المهندسين ورؤية الأمير محمد بن سلمان للمملكة عام 2020:
بما أن المهندس السعودي هو الأساس في الموارد البشرية التي تبني القطاع الهندسي الوطني فلابد من إيجاد حوافز مشجعة له للقيام بدوره، فمع الأسف القطاع الحكومي محبط جداً للمهندس السعودي الذي يجد نفسه أمام راتب ضئيل يبدأ بـ(5070 ريالاً) وبدون أي بدلات، بل هو ملحق بسلم الموظفين العام الذي وجد قبل وجود المهندسين وتم إلحاقهم به، وهو محبط للمهندس لا من حيث شهادته وتعليمه، ولا من حيث الأدوار والمهام المطلوبة منه، وأتمنى أن ينهض هذا المشروع بالإسراع بإصدار واعتماد كادر المهندسين الذي تفرق دمه بين الوزارات (سلم رواتب للمهندسين) أسوةً بغيرهم من الفئات التي تخدم الوطن.
ورؤية الأمير محمد بن سلمان للمملكة عام 2020 رؤية طموحة ورائعة جداً ستضعنا على الطريق الصحيح المحدد الأهداف، وأعتقد جازماً أن (القطاع الهندسي) يجب أن يكون أحدى اللبنات الأساسية في تحقيق هذه الرؤية.