م. عبدالعزيز بن محمد السحيباني
المدن هي الموطن الأساسي لمعيشة البشر، ومن طبيعتها أن تكون على مساحة محددة فقط يتساءل الكثيرون لماذا المدن في بلد صحراوي هي على مساحة صغيرة، والجواب يأتي من سهولة توفير الخدمات على مساحة صغيرة بدلاً من المساحات الكبيرة. فمن السهولة بمكان وضع بئر مياه واحدة وضخها إلى منازل مدينة تحتوي على 100 منزل متجاورة، أما إذا تباعدت هذه المنازل عن بعضها فستحتاج إلى مضختين وإلى عدد من الأنابيب أطول من السابق،
وسنحتاج إلى كميات كبيرة من الإسفلت لسفلتة طرق المدينة إذا تباعدت منازلها وسنحتاج إلى عدد أكبر من المدارس والمساجد إذا تفرقت منازل المدينة على مساحة كبيرة. إضافة إلى كون الإنسان يحب التقارب من بني جنسه بطبعه، فمن الصعوبة أن يعيش في مكان منعزل، بل لابد أن يعيش بجوار ساكن آخر من بني جنسه.
إن الأسلوب العمراني المتبع في تخطيط المدن هو تأسيس مخطط يحتوي على مربعات تبنى عليها المنازل السكنية والمرافق العامة (مدارس، مساجد، مستشفيات، أسواق).. ويتخلَّلها ممرات طويلة الهدف الرئيسي منها هو مرور السيارات والشاحنات والناس، وفي مراكز المدن التي نشأت قبل ظهور السيارات فإن شوارعها عبارة عن ممرات بعرض لا يزيد على 2م غالباً، وهذه مشاهدة في أغلب مراكز المدن. وبعد التطور العمراني والمعيشي خلال عصور النهضة الحديثة نشأت الحاجة إلى مرافق الخدمات العامة، حيث تم الاستغناء عن ري المياه بالنقل على ظهور الحيوانات أو حتى بواسطة الصهاريج بالشبكة العامة من أنابيب المياه التي يتم تمديدها عبر الطرق والشوارع داخل المدن، ثم نشأت الحاجة إلى الصرف الصحي بعد نمو المدن وتخطيطها تخطيطاً حديثاً ونمو موارد الدولة من البترول، حيث تم العمل على إنشاء تمديدات للصرف الصحي عبر الطرق والشوارع أيضاً بعد تخطيط هذه المدن بطرق وشوارع ذات عروض 20م و30م، 40م، 60م، 100م. وهذه العروض الكبيرة التي تم حجزها أصلاً لخدمة حركة مرور السيارات والشاحنات الكبيرة لم يكن الهدف منها أساساً هو تمديدات الخدمات، وبالطبع فإن أكبر هذه التمديدات هي تمديدات الصرف الصحي، حيث تحتوي على أقطار للأنابيب تزيد على 2م أحياناً وتحتوي على أغطية (مناهل) في مسافات متقاربة، وأحياناً هي عبارات إسمنتية صندوقية، ثم نشأت الحاجة فجأة إلى تصريف السيول والتي لم يتم التخطيط لها مسبقاً حيث إن المدن كانت صغيرة الحجم ونشأت على مرتفع من الأرض، وبعد توسعها دخلت ضمن مجاري الأودية والمستنقعات، وتم سفلتة الطرق خلالها، وبناء المباني فيها فوجدت المدن نفسها وهي تغرق في مياه الأمطار وبدأ بعد ذلك التفكير في تصريف السيول مما زاد خدمة تحتاج إلى مساحة كبيرة من الشارع، بل هي في الغالب من خلال عبارات إسمنتية صندوقية أيضاً، مما اضطر الأمانات إلى حفر الطرق المسفلتة مرة أخرى بعد سفلتتها، وذلك لتمديد عبارات وأنابيب تصريف السيول، ثم نشأت الحاجة إلى تعزيز تمديدات الكهرباء والهاتف أيضاً مما زاد الأعباء على مسارات الطرق، حيث إن الحاجة إلى الكهرباء والهاتف تنشأ بعد نمو المدن عمرانياً وسكانياً وبعد سفلتة شوارعها وطرقها، مما يجعل الملاذ الوحيد هو الطرق المسفلتة فيتم حفرها طولياً وعرضياً مرة أخرى، ولو تم إزالة طبقة الإسفلت من أحد الشوارع لرأينا أسفله عجباً من الكيابل والسلاك المتقاطعة والأنابيب المتجاورة، فهذا للمياه، وهذا للصرف الصحي، وهذا للسيول، وهذا لري الأشجار، وهذا أنبوب قديم تم إلغاؤه... أما على سطح الإسفلت ففي كل متر أو أكثر غطاء غرفة تفتيش فهذا غطاء للصرف الصحي، وهذا غطاء للهاتف، وهذا صمام مياه، وهذا غطاء لخط السيول، وهذا غطاء لكيابل الإنارة، وفي أغلب الأحيان يتم شغل جزء كبير من الطريق الذي خصص أصلاً لمرور السيارات بواسطة أعمدة الكهرباء التي تحمل أسلاك الضغط العالي للكهرباء والخزانات، والتي تضايق الناس في منازلهم وفي مواقف سياراتهم وفي شوارعهم، ويحصل بسببها كوارث...
إن هذه الخدمات هي خدمة ضرورية للناس بلاشك، ولكن تنفيذها بهذه العشوائية والتنافر شيء غير مقبول إطلاقاً، فهو هدر للاقتصاد الوطني ولميزانيات الجهات الحكومية وحتى غير الحكومية، فشوارع المدن أصبحت ساحة مواجهة وتدمير وقضم لكل البنى التحتية التي تم إنشاؤها، فهذا المقاول يدمِّر طبقات الإسفلت وما أسفل منها وما علاها، وهذا المقاول يدمر الأرصفة وما حولها ما دونها وما وراءها، وهذا المقاول يمزق كيابل الإنارة، وهذا يدمِّر شبكات ري الأشجار.. والزهور، وهذا يمزَِق شبكات المياه، وهذا يدمِّر أنابيب تصريف السيول والصرف الصحي.. والسبب الرئيسي في ذلك هو:-
أ- الغياب التام لقاعدة المعلومات الرئيسية عن خدمات المدينة (As built) فبعد الانتهاء من تنفيذ أي شبكة يتم رمي مخططاتها في الدواليب أو الأدراج أو الأرشيف ويتم طمرها تحت طبقات الإسفلت، وربما تعارضت مع خدمة أخرى في مسارها أو في عمقها. وغاب استخدام (نظم المعلومات الجغرافيةGIS( وهو نظام خرائط حاسوبي معلوماتي وصفي مرتبط بأبعاد دقيقة تحفظ كل شبكة من الخدمات بعد تنفيذها على طبقات من الخرائط الرقمية الدقيقة وتبعدنا عن العشوائية التنفيذية والأرشيفية.
ب- غياب التنسيق بين الجهات المنفذة واختلاف ميزانياتها وخططها وبرامجها فالكهرباء تختلف أولوياتها وبرامجها عن المياه، والمياه تختلف أولوياتها وبرامجها عن الصرف الصحي، صحيح أن التنسيق بين كل الخدمات صعب جداً بل ومن المستحيل قيام تنسيق بنسبة 100 % ولكن من الممكن أن تكون نتائجه بنسبة 75 % فما لا يدرك كلَّه لا يترك جلَّه، ولا يعني قطع شارع واحد من خمسة مائة شارع بعد سفلتته أن ليس هناك تنسيقاً ولكنه يمكن تدارك الـ99 شارع المتبقية حتى لا يحصل لها نفس المصير.
ج- اتضح من الدراسات أن 40 % من ميزانية إصلاح الطرق التي تعتمد للأمانات والبلديات تهدر لإصلاح عيوب الطرق الناتجة عن حفريات الخدمات المختلفة.
وسأستعرض هنا بعض التجاوزات والأخطاء التي تحصل عند تنفيذ الخدمات وأسبابها :-
1- اللجوء لأسهل المسارات عند التنفيذ :
عند منح ترخيص تمديد خدمة معينة لأي شركة أو جهة فإن التركيز ينصب على ضرورة إعادة السفلتة (كما كانت) دون النظر إلى المسار وتحديده بدقة للمقاول المنفذ، مما يجعله عند التنفيذ يلجأ لأسهلها وأقلها في تكاليف الحفر والإعادة، فإذا كان الطريق مكوناً من 3 مسارات لكل اتجاه فهو يلجأ غالباً إلى المسار الأيسر (القريب من الجزيرة الوسطية) وذلك لكونه أولاً أقل المسارات في عوائق التنفيذ فلا يوجد فيه غرف تفتيش، أو كيابل كهرباء. وثانياً إنه أقل المسارات تكلفة في توفير وسائل السلامة المرورية فجهته اليمنى فقط هي التي تحتاج إلى وضع حاجز أما اليسرى فتوجد عليها الجزيرة الوسطية، أما المسار الأيمن فهو أكثر المسارات تكلفة نظراً لوجوده بجانب المنازل والشوارع الفرعية وتراكم الخدمات السابقة تحته (نظراً لقربه من المنازل والمحلات التجارية)، ولكن من الخطأ ترك المجال للمقاول المنفذ لاختيار المسار الأيسر لأنه الأكثر ضغطاً في حركة المرور، والأكثر تأثراً في حركة المرور في حالة عدم إعادته إلى وضعه الأصلي.
2- عدم دك طبقات الردم أسفل الإسفلت :
والطبقات الواقعة تحت طبقة الإسفلت هي الأساس في الهيكل الإنشائي للطريق فعند تنفيذه تم دكها على دفعة واحدة بكامل عرض الطريق وبواسطة (الهزازات الميكانيكية) مما أعطاها تماسكاً وتماثلاً مع كافة أجزاء الطريق، وعند الحفر لتحديد الخدمة يتم خلخلة طبقات الأساس للطريق وقطع شريحة طولية منه، ويمكن تمثيل ذلك بورقة يتم سبكها وصبها في المصنع لتصبح ورقة متماسكة ثم بعد ذلك يتم قطعها إلى نصفين أو قص شريحة طولية منها، فمن المستحيل إرجاعها إلى حالتها قبل الفصل ولن تعود الورقة إلى حالتها الأصلية إلا بإعادة تصنيعها بالكامل من جديد، ولكن لصقها يختلف من وسيلة لأخرى. وبعض المحترفين سيتمكن من لصقها لتعود وكأنها الورقة الأصلية، والطريق أساساً هو كذلك، إضافة إلى أنه عند إنشاء الطريق لم يكن مكتظاً بالخدمات وبعد سفلتته وجدت فيه عشرات الخدمات، ولا يستخدم الدك الميكانيكي ( الهزَّاز ) أثناء الإعادة تحاشياً للأضرار بهذه الخدمات أو تكسيرها وذلك يسبِّب حتماً انهيار الطريق مستقبلاً، وغالباً ما تحدث أعمال الحفر والخلخلة تسربات كبيرة للمياه أسفل الطريق تتجمع في خندق الحفر وتتسرب إليه لأنه أصبح المنطقة الأقل كثافة في أساس الطريق ( نظراً لعدم دكه بقوة )، وهذه التسربات من شبكة المياه أو شبكة الصرف الصحي تجعل التربة مشبعة مما يسبب انهيار أجزاء من الطريق على امتداد حفرية الخدمة.
3- ضيق عرض الحفرية :
جعل مع ضيق عرض الحفرية من الصعب استخدام المعدات الميكانيكية في أعمال الإعادة فمن الصعب استخدام القريدر لضبط المناسيب (يتم ضبطها يدوياً)، وجعل من الصعب استخدام الفرادة لفرد الإسفلت (يتم فرده يدوياً في أغلب الأحيان)، وهذا يحدث تفاوتاً في منسوب حفرية الخدمات بالنسبة لمنسوب الطريق. ومقاول التنفيذ يلجأ إلى أقل العروض في الحفر ليتجنب زيادة مواد الأعمال المدنية ( طبقات الأساس، الإسفلت ) والمشكلة الأكبر التي لا يلتفت لها الكثيرون هو تقليل سُمُك طبقات الإسفلت، ففي معظم حفريات الخدمات يتم وضع طبقة إسفلت رقيقة لا تساوي السُمُك الأساسي لإسفلت الطريق، وذلك لأن مراقب البلدية أو الأمانة أو الاستشاري المشرف يقوم بقياس السُمُك ( إذا قام بذلك ) عند حافة الحفرية الملاصقة للإسفلت القديم أما في وسط الحفرية فهي مرتفعة غالباً والمواد الترابية تكون مساوية لمنسوب الإسفلت القديم، مما يجعل ذلك يظهر على شكل تموجات بعد أشهر من فتح الطريق للحركة.
4- قرب الخدمات من سطح الإسفلت:
تلجأ كثير من الشركات وحتى الجهات الحكومية وخاصة التي لا تحتاج إلى مناسيب معينة كالمياه التي تضخ بواسطة المضخات والهاتف والكهرباء إلى تقليل الأعماق نظراً إلى تكلفة الحفر العميق للخدمات ولسهولة صيانتها مستقبلاً وتغييرها والكشف عن الأعطال فيها، وهذا كوَّن عائقاً كبيراً وتكلفة باهظة تدفع فاتورتها المدينة نفسها فضلاً عن بلديتها، حيث إن قرب الخدمات من سطح الإسفلت يجعل ما تحت الإسفلت أشبه بمدينة مأهولة بالسكان، وأي قطع لها أو إزالة للإسفلت (عند الحاجة إلى صيانته) يعني تكلفة باهظة جداً تفوق تكلفة صيانة الإسفلت نفسه أو الرصيف، حيث تلجأ البلديات إلى تحميل ميزانياتها المخصصة لصيانة الإسفلت تكاليف ترحيل هذه الخدمات أو تعميقها واستبدالها مما يجعل ميزانية البلدية يحمل عليها ميزانية استبدال هذه الخدمات بخدمات جديدة مع تكاليف الأعمال المدنية لها، حيث إن البلدية هي المالك للطريق ضمناً وهي التي قامت بفتحه وسفلتته مما يجعل مثل هذه الخدمات كالضيوف الثقلاء جداً على الطريق، مما يستوجب سنَّ قوانين لتنظيم هذه الخدمات مع فرض قانون واضح يلزم بأن لا يكون عمق هذه الخدمات أقل من 1 متر في جميع الأحوال.
5- عدم استخدام وسائل السلامة المناسبة :
تلجأ كثير من المؤسسات والشركات المنفذة إلى وضع أقل كمية مطلوبة من وسائل السلامة هذا إذا لم توضع أصلاً، وقد تلجأ إلى وضع وسائل السلامة بدائية وخطرة مثل أكوام الأتربة، أو الأقماع المهترئة التي لا يوجد عليها وسائل عاكسة للضوء، أو وضع ( نيوجرسي ) على حافة الحفرية مما يجعل السقوط فيها سهلاً، أو أن يتم وضع وسائل سلامة بطريقة خاطئة تجعل القادم إليها عابراً للطريق يفاجأ بها تماماً والمفترض وضعها على مسافات لا تقل عن 100م من بداية الأعمال المدنية في الشوارع الداخلية، على أن يتم تكرارها وتكثيفها قبل الوصول لمنطقة العمل في الخدمات بمسافة قصيرة، كما أن بعض الحفريات وخاصة الخاصة بتمديدات الصرف الصحي عميقة جداً ويلجأ المقاول المنفذ إلى إنزال عمالة ومعداته إلى عمق يزيد على 10م بدون أي تدعيم للحفرية من جوانبها، مما يجعلها تنهار في كثير من الأحيان على العمالة الموجودة فيها، كما أن كثيراً من الشركات والمؤسسات تلجأ للاقتصاد في أعمال الإضاءة وعدم توفير مولد خاص للإضاءة والتحذير ليلاً عن طريق الربط العشوائي ذي المنظر السيئ من شبكة إنارة المدينة، كما أنه لا يضع أسهما ليلية مضاءة وعلامات ترشيد إلى التحويلة والمسار الصحيح، وفي حالة عدم وجود دليل لأعمال السلامة كالأبعاد قبل الحفرية وعدد حبات النيوجرسي والأبعاد بينها وارتفاعها وعدد اللوحات التحذيرية، وطريق وضع الأعماق فإن كثير من المؤسسات والشركات تقوم بوضع علامات سلامة عشوائية وغير منظمة أو مضبوطة بأبعاد ومسافة انحراف وتوقف للمركبات تضمن سلامة عابري الطريق، كما أنه لا يتم وضع معابر للمشاة في حالة قطع هذه الحفريات لمسار يؤدي إلى منزل أو مدرسة أو مسجد، وهذه العشوائية في وسائل السلامة سببت حوادث مرورية كثيرة وحوادث سقوط في هذه الحفريات، مما يستدعي وجود لائحة ودليل شامل لأعمال السلامة في هذه الأعمال. وسيتم استعراض الحلول الإدارية والفنية والاستراتيجيه لتنسيق الخدمات لاحقاً إن شاء الله.