أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
(3- 5):
قال الإمام ابنُ حزم رحمه اللهُ تعالى في كتابه (الإحكامُ في أصولِ الأحكامِ) ص 1107- 1108/ دار الحديث بالقاهرة: ((وفي آية واحدة مما ذكرنا كفاية لمن اتَّقَى الله عز وجل ونصح نفسه؛ فكيف وقد تظاهرت الآيات بإبطال ما يدَّعونه من القياس في دين الله تعالى؟.. وكذلك أيضا جاءت الأحاديث الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبطال القياس
كما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي: ثنا أحمد بن فتح: ثنا عبد الوهاب بن عيسى: ثنا أحمد بن محمد: ثنا أحمد بن علي: ثنا مسلم: ثنا ابن نمير: ثنا روح بن عبادة: ثنا شعبة..قال مسلم.. وحدثني زهير بن حرب: ثنا يحيى بن سعيد: عن شعبة قال: أخبرني أبو بكر ابن حفص: عن سالم بن عمر [رضي الله عنهم] قال: إن عمر رأى على رجلٍ من آل عطارد قُباءً من ديباجٍ أو حرير؛ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو اشتريته؟).. فقال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له؛ فأُهْدِي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حُلَّةَ سيراء [أي تُشْبِهُ خطوطُه السُّيورَ]؛ فأرسل بها إليَّ؛ فقلتُ: أرسلتَ بها إليَّ وقد سمعتك قلت فيها ما قلت.. قال: (إنما بعثتُ إليك لتستمتع بها).. قال ابن نمير في حديثه: (إنما بعثتها إليك لتنتفع بها، ولم أبعث بها إليك لتلبسها).
قال أبو عبدالرحمن : أسْلَفْتُ في الحلقة السابقة : أنَّ القياس عند ابن حزم ضرورةُ عَقْلٍ ؛ فليس أَحَدُ الأمْرين مما يقول عنه أَهْلُ القِياسِ: (مَـقِيسٌ ، ومَقِيْسٌ عليه) بأوْلى من الآخَرِ بأنْ يكون مَقِيْساً عليه.. وأُضِيْفُ الآن : أنَّ ربنا سبحانه وتعالى يَضْرِبُ لنا الأمثالَ ؛ فَيَقِيْسُ لنا شَيْئَاً على شيىءٍ، وليس لنا أنْ نَضْرِبَ لِربنا الأمثالَ ؛ لأنَّ رَبَّنا يَعْلَمُ ونحن لا نَعْلَمُ إلا ما علَّمنا سبحانه وتعالى؛ ولهذا قلتُ في مَنْظومتي في أصولِ الفقه:
قاسوا شريعةَ ربِّهم بعقولِـهِمْ
مُسْتَدْرِكينَ بِما يطولُ نكالُهُ
إبليس قبلاً ما هداهُ قياسُهُ
فثوى لعيناً واستمرَّ وبالُهُ
النارُ خيرٌ لا تُقاس بطينِهِ
لَـمْ يَدْرِ أنَّ الْـمُصْطَفى صلصالُهُ
وقريشُ قاسوا البيعَ مثلَ ربائهمْ
واللهُ مَـيَّـزَ ما عناهُ حَلالُهُ
هاتوا قياساً لم يَرِدْ تبيانَهُ
إنْ كان حقّْاً تُـحْتَذَي أشكالُهُ
ما فَرَّط اللهُ العليمُ بشـرعهِ
ونصوصهُ الإسلامُ وهْيَ كمالُهُ
كَمُلَ البيانُ فلمْ نجدْ لقياسِكمْ
معنى زكتْ عند الإلهِ خِلالُهُ
ما كان ربُّكمُ نَسِيّْا ساهياً
ورسولُه فينا هدى أقوالُهُ
قالوا قياسُ الوحي هاهُوَ حُجَّةٌ
وبذا مَشَى صحبُ الرسولِ و آلُهُ
قلنا قياسُ الوحي نصٌّ ظاهرٌ
وقياسُكُمْ ظنٌّ يبين ضَلالُهُ
ودعوا التعلُّلَ بالصحابِ فإنَّـهُمْ
خيرُ الورى للدينِ بل أبْطالُهُ
ودلُيلنا من نَقْلِهم لا رأيِـهمْ
ونحبُّهم حـبّْـا لنا أَحْـفَـالُـهُ
لو كان رَأْيُهُمْ دليلاً لازماً
ما كان يَعْقُبُ فَتْلَهُ إبْطالُهُ
إنَّ الإله أبى الخلافَ شريعةً
وهدى لشرع لا يُشاب كمـالُهُ
يا قومِ ما مـعنى القياسِ بديننا
أَيُسامُ نَقْصَاً عندكم إكمالُهُ
قالوا : القياس هنا جوامعُ حِكْمَةٍ
يزهو بها شرعُ الْـهُدَى ومقالُهُ
قلنا : جوامِعُهُ خلافُ قياسِكمْ
نصٌّ صريحٌ يَنْتفي إشْكالُهُ
وقال الإمام ابن حزمٍ رحمه الله تعالى في منْظُوْمَتِه في أصُوْلِ الفقه:
وإنْ اُمْرُؤٌ في الدِّينِ حَكَّمَ نَفْسَهُ
قِياسَاً أوْ اِسْتِحْسَانَ رَأْيٍ فقدْ اِعْتَدَى
وقال عن أهل القياس:
وَأَثْقَلَهُمْ جَمْعُ النُّصُوْصِ فَأَظْهَرُوا
على الدِّينِ نُقْصَانَ النُّصُوْصِ تَبَلُّدا
وقالوا : (لَنا إكمالُهُ وتَمَامُه)
تباركْتَ ربِّي أنْ تكونَ مُفَنَّدا
أراد أبو محمد بجمْعِ النصوصِ ما صَحَّ أنَّ اللهَ أرادَهُ من إعْمَالِ النصوصِ كُلِّها في مسألة واحدة مِن غير إسقاطٍ ولا إضافَةٍ ؛ فهذا هو الاجتهادُ الْـمَشْرُوعُ كما في بعض أبياته.. ودلالَةُ النصوص مُـجْتَمِعَةً حكْمٌ يقينيٌّ ، وليس هو ظنٌّ أوْ رُجْحانٌ يكون فيه لِلْمَجْتَهِدِ عُذْرٌ وَمَغْفِرَةٌ إنْ أَخْطَأَ.
قال أبو عبدالرحمن : سمعتُ شيخي عبدالرزاق عَفيفي رحمه الله تعالى أيَّامَ إشرافِه على رسالَتي يقولُ لي : ((ليس الرَّدُّ على نُفَاةِ القياسِ سَهْلاً كما اسْتَسْهَلَ ذلك الْأصُوْلِيّْيُوْنَ)).
قال أبو عبدالرحمن : جَرَّبْتُ في دراستي بكليَّةِ الشريعة، وبمعهد القضاء العالي: أنَّ مُثبتي القياس يوردون من أَدِلَّةِ أهلِ الظاهِرِ على نَفْيِ القياس ثلاثة أَدِلَّة، ثمَّ يردُّون عليها بأدِلَّتِهِم على نَفْيِ القياس؛ ولكنهم لم يَـفْعَلَوا شيئاً لأمرين:
أوَّلُهما : أنك لا تَجِدُ مسألةً واحدةً استدلَّ عليها مُثْبِتُوْا القياسِ ويكونُ خلافُها عِصْياناً للشرعِ ؛ بل تجدُ هذا القياسَ : إما باطلاً شرعاً ، وإما عليه دليلٌ من الشرعِ غيرُ دليلهم ؛ فيكونُ الْـمُتَّبعُ الشرعُ لا قياسُهم.
وثانيهما : أنَّ إلزامَهم نفاةَ القياسِ اِتِّبَاعَ قياسِهم لا يَتَحَقَّقُ إلا ببرهانٍ شرعيٍّ، أو ضرورةِ عقلٍ : على أنَّ قياسَهم واجبُ الطاعَةِ شَرْعاً؛ وهذا أَمْرٌ لا يملكونَه ؛ لأنَّ أَقْيِسَتَهم ذاتُ تعليلاتٍ مُـخْتَلَفٍ فيها عندهم اختلافاً كثيراً قد يصل إلى اِثْنَيْ عَشَرَ تعليلٍ كالرِّبا ؛ فَمِنْهُمْ مَن قال : (الْـعِلَّةُ الكيلُ) ، ومنهم مَنْ قال: (الوزن) ، أوْ الطُّعْمُ ، أو الادِّخارُ ..إلخ.. إلخ؛ فأيُّ هذه التعليلاتِ هو الْـحَقُّ.. والقياسُ الشرعيُّ الواجِبُ الطاعَةَ هو ما أمر اللهُ به مِـمّْا قاسَهُ لنا ربُّنا سبحانه وتعالى كالجزاء عن قَتْلِ الصيدِ بِمِثْلِ ما قَتَلَ مِن النَّعَمِ، وليس لنا أنْ نُعَلِّم ربنا فنقيس له بأقْيِسَتِنا الْـمُتَخَبِّطة كما مَرَّ في منظومتي ومنظومة الإمام ابن حزم؛ فهذا هو معنى قولِ شيخي عبدالرزاق رحمه الله تعالى؛ وبخلافه تَعَصُّبُ شيخي محمد الأمين الشنقيطيِّ رحمه الله تعالى للمالكيَّةِ رحمهم الله تعالى في تفسيره ؛ إذْ اسْتَشْهَدَ بقول الشاعِرِ مُـنَزِّلاً البيتَ الْـقَبيحَ على علماءِ أهل الظاهِرِ رحمهم الله تعالى:
أَمُنْفِقَةَ الْأيتامِ مِن كَدِّ فَرْجِها
لَكِ الْوَيْلُ لا تَزْنِيْ ولا تَتَصَدَّقي
عفا الله عن الشنقيطيِّ ما أقْبَحَ اِستِشْهادَهُ، وما أَقْبَحَ تفسيرَهُ إذ جعل علماءَ الظاهِرِ رحمهم الله تعالى في نصابِ الزانيةِ تَتَصَدَّقُ مِن كَدِّ فَرْجِها ؛ وما أَجْرَأَهُ على الْأئِمَّةِ تَعَصُّباً؟.. ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بالله الْـعَلِيِّ العظيم.. على أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى غَفَرَ لِبَغِيٍّ سَقَتْ كلباً يلهث من الظَّمإ ؛ فَحَمَلَتْ له الماء مِن البئرِ في خُفِّيْها بعناءِ، وَأَدْخَلَها اللهُ الجنَّة كما صَحَّ بذلك الخَبرُ الشرعي الْمُطَهَّرِ.. ثم قال الإمامُ ابن حزمٍ رحمه الله تعالى في كتابه الإحكام ص 1108 : ((وبالسند المذكور إلى مسلم قال: حدثنا شيبان بن فروخ: ثنا جرير بن حازم: ثنا نافع: عن ابن عمر [رضي الله عنهما] قال: (رأى عمر عطارداً اليمني يُقِيْمُ [بتخفيفِ القاف الْـمُعْجَمَةِ ؛ والْـمَعْنَى يُقِيْمُ سِعْرَها.. والتَّقْيِيْمُ بمعنى تقديْرُ القيمَةِ صحيح في لُغَةِ العرب وإنْ لَـمْ يُسْمَعْ ؛ لأنَّ هذا مِن تحويلِ الاسم ؛ وهو القيمةُ إلى الْـفِعْلِ قَيَّمَ ؛ فهذا صحيح في لغةِ العرب مِثْلُ جَلَدَه وَرَأَسَهُ ؛ أي ضربهُ في رأسِهِ ، وضربَ جِلْدَه] بالسوق حلة سيراء.. فقال عمر: يا رسول الله: إني رأيت عطارداً يُقِيْمُ في السوق حلة سيراء، فلو اشتريتَها فلبستَها لوفود العرب إذا قدموا عليك؟.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة).. فلما كان بعد ذلك أُتِـي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء، فبعث إلى عمر بحلة ، وإلى ابن زيد بحلة، وأعطى عليَّ بن أبي طالب حلة [رضي الله عنهم جميعاً]، وقال: (اشققها خُـمُراً بين نسائك)؛ فذكر أمرَ عمر.. قال: وأمَّا أسامة فراح في حلته؛ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظراً عَرفَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكر ما صنع؛ فقال يا رسول الله: ما تنظر إلي؛ فأنتَ بعثتَ بها إليَّ؟.. فقال : (إني لم أبعثها إليك لتلبسها ، ولكن بعثت بها لتشققها خُمُراً بين نسائك ).. فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر تسويتَه بين الملك والبيع والانتفاع، وبين اللباس المنهي [عنه]، وأنكر على أسامة تسويته بين الملك واللباس أيضاً، وكل واحد منهما قاس؛ فأحدهما حرَّم قياساً، والآخر أجلى [أيْ أظهَرَ] قياساً ؛ فأنكر صلى الله عليه وسلم القياسين معاً، وهذا هو إبطالُ القياس نفسُه.. ولا بد في هذين الديثين من أحد مذهبين: إما أن يقولَ قائل: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إذْ نهى عن لباس الحرير، ثم وهبهما حُلَلَ الحرير: أنْ يكون لَـبَّس عليهما!؛ وهذا كفر من قائله.. أو أنه صلى الله عليه وسلم بيَّن عليهم [الأفصحُ: لَـهُمْ] المحرَّم من الحرير وهو اللباس المنصوص عليه فقط، وبقي ما لم يَذْكُرْ على أصل الإباحة، فأخطآ [بمد الألف المهموزةِ للتَّثْنِيَةِ] رضي الله عنهما إذْ قاسا؛ وهذا هو الحقُّ الذي لا يحل لأحدٍ أنْ يعتقد غَيرَه.. وبالله تعالى التوفيق))، وإلى لقاء عاجلٍ قريبٍ إنْ شاء الله تعالى مع أخْطاءٍ في كلامِ الإمامِ ابن حزمٍ رحمه الله تعالى، والله المستعان.