أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الله سبحانه وتعالى: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (4) سورة الأحزاب.
قال أبو عبدالرحمن: الْعامِيُّ على فطرتِه ودعْكَ مِن العالِمِ النحرير: يَسْتَشْكِلُ الْعلاقَةَ بين نَفْيِ اللَّهِ أنْ يكونَ للإنسان عَقْلَيْنِ في جوفِه، وبين كونِ الزوجةِ التي قال الْمُظاهِر منها: (أنتِ عَلَيَّ كظهر أُمِّيْ): أُمّْاً على الحقيقةِ؛ وهذا الاسْتِشْكالُ الْفِطْرْيُّ: برهانٌ قاطع على أنَّه لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يكونَ في قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِن شَكٍّ في أنَّ في كلامِ الله فُضُوْلاً ليس فيه زيادِةُ فائِدةٍ؛ لأنه حِيْنَئِّذٍ يَكُونُ مُنْكِراً ما ليس له به علمٌ؛ وهذا مُحَرَّمٌ بنصوصٍ كثيرة كما في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (7) سورة آل عمران. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (36) سورة الإسراء، عامٌ في تحريمِ إنكارِ ما ليس له بهِ عِلْمٌ، وإثباتِ ما ليس له به عِلْمٌ؛ فهذا مُحَرَّمٌ بنصوصٍ كثيرةٍ كما في قوله سبحانه وتعالى عن قولِ نوحٍ عليه وعلى جميع أنبياء الله ورسله أَفْضَلُ الصلوات والسلام والبركات: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} (47) سورة هود.
قال أبو عبدالرحمن: كما أنَّ الإثباتَ أوْ الإنْكارَ بغيرِ عِلْمٍ مُحَرَّمٌ شرعاً، غيرُ مَقْبُوْلٍ عقلاً: فهو دليل قاطِعٌ على أنَّ الْبَحْثَ عن سببِ النولِ أَمْرٌ ضروري واجب شرعاً وعقلاً؛ لأنَّه يأتي في سببِ النزول ما هو جُزْءٌ مِن سياقِ النَّصِّ لا يُفْهمُ النَّصُّ إلا به؛ فعلى سبيل المثال: أنَّى لنا أنْ نَفْهَمَ قولَه تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (189) سورة البقرة: لو لم نعلم عادةَ أهْلِ الجاهِلِيَةِ في ذلك؛ فذلك هو سببُ النزول؟؛ فَحَقٌّ على المسلم أنْ يَبْحَثَ عن سبب النزولِ، ويُحَقِّقُهُ ثبوتاً ودلالةً؛ فَبَعْدَ التحقيقِ ثبوتاً يبحث عن الدلالةِ: إمّْا يقيناً؛ وإمّْا رُجْحاناً، وأمّْا باحْتِمالاتٍ كلُّ احتمالٍ فيها غيرُ مُسْتَبْعَدٍ لا بيقينٍ ولا برجحان؛ فإن لم يَجِدْ شيْئاً من ذلك: اِعْتَصَمَ بقوله تعالى: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (7) سورة آل عمران؛ وعلى هذا الْمَنْهَجَ: جرى إمامُ الْمُفَسِّرين الإمامُ محمدُ بنُ جريرٍ الطبريُّ رحمه الله تعالى.. قال في تفسيره (جامِعُ البيانِ) 19/6 11: ((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } (4) سورة الأحزاب: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ تَكْذِيبَ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَصَفُوا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ ذُو قَلْبَيْنِ؛ فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ وَكَذَّبَهُمْ.. حَدَّثَنَا أَ بُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثَنَا حَفْصُ بْنُ بُغَيْلٍ قَالَ: ثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: قُلْنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ [رضي الله عنهما]: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} مَا عَنَى بِذَلِكَ؟.. قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَصَلَّى، فَخَطَرَ خَطْرَةً؛ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُصِلُونَ مَعَهُ: إِنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ: قَلْبًا مَعَكُمْ، وَقَلْبًا مَعَهُمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ يُدْعَى ذَا الْقَلْبَيْنِ مِنْ دَهْيِهِ..حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي قَالَ: ثَنِي عَمِّي قَالَ: ثَنِي أَبِي: عَنْ أَبِيهِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رضي الله عنهما]: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُسَمَّى مِنْ دَهْيِهِ ذَا الْقَلْبَيْنِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي شَأْنِهِ..حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُوعَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَاهُ الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ.. جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} قَالَ:إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ قَالَ: إِنَّ فِي جَوْفِيَّ قَلْبَيْنِ أَعْقِلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَفْضَلُ مِنْ عَقْلِ مُحَمَّدٍ.. وَكَذَبَ..حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى ذَا الْقَلْبَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا تَسْمَعُونَ..قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: كَانَ رَجُلٌ يَقُولُ: لِيَ نَفْسٌ تَأْمُرُنِي، وَنَفْسٌ تَنْهَانِي؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا تَسْمَعُونَ..حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثَنَا أَبِي: عَنْ سُفْيَانَ: عَنْ خُصَيفٍ: عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُسَمَّى ذَا الْقَلْبَيْنِ، فَنَزَلَتْ: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِىَ بِذَلِكَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلََّ كَانَ تَبَنَّاهُ؛ فَضَرَبَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَثَلًا..حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ قَال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ.. ضربَ الله لَهُ مَثَلًا.. يَقُولُ: لَيْسَ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ ابْنَكَ.. [قال القرطبي في تفسيره 14/117: قال النحاس: وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة؛ وهو من منقطعات الزهري.. رواه معمر عنه ]..وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ تَكْذِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلَ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ فِي جَوْفِهِ قَلْبَانِ يَعْقِلُ بِهِمَا.. عَلَى النَّحْوِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رضي الله عنهما]، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَكْذِيباً مِنَ اللَّهِ لِمَنْ وَصَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ تَكْذِيباً لِمَنْ سَمَّى الْقُرَشِيَّ الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ سُمِّيَ ذَا الْقَلْبَيْنِ مِنْ دَهْيِهِ.. وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ فَهُوَ نَفْيٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ خَلْقِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَنْ يَكُونُوا بِتِلْكَ الصِّفَةِ..وَقَوْلُهُ: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ (4) سورة الأحزاب.. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ أَيُّهَا الرِّجَالُ نِسَاءَكُمُ اللَّائِي تَقُولُونَ لَهُنَّ: أَنْتُنَّ عَلَيْنَا كَظُهُورِ أُمَّهَاتِنَا.. أُمَّهَاتِكُمْ؛ بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِكُمْ كَذِبًا، وَأَلْزَمَكُمْ عُقُوبَةً لَكُمْ كَفَّارَةً؛ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}: أَيْ مَا جَعَلَهَا أُمَّكَ؛ فَإِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْهَا أُمَّهُ، وَلَكِنْ جَعَلَ فِيهَا الْكَفَّارَةَ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} يَقُولُ: وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ مَنِ ادَّعَيْتَ أَنَّهُ ابْنُكَ وَهُوَ ابْنُ غَيْرَِ.. ابْنَكَ بِدَعْوَاكَ..وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ تَبَنِّيهِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ [رضي الله عنه].. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ.. جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ: قَوْلَهُ: {أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ)) .
قال أبو عبدالرحمن: قَلَّبَ الإمامُ الزَّمَخْشَرِيُّ الاحتمالاتِ اللُّغَوَيِّةَ على كلِّ وجوهِها؛ فقال في تفسيره ( حقَائقُ التَّنْزِيلِ، وعيونُ الأَقاويلِ في وجوهِ التَأْويلِ 3/249 / ط دارِ الفكْرِ): (( وَالتَّنْكِيرُ في (رَجُلٍ)، وَإِدْخَالُ (مِنَ) الَاسْتِغْرَاقِيَّةِ عَلَى (قَلْبَيْنِ) تَأْكِيدَانِ لِمَا قَصَدَ مِنَ الْمَعْنَى.. كَأَنَّهُ قَالَ:(مَا جَعَلَ اللَّهُ لِأُمَّةِ الرِّجَالِ [لَعَلَ الصوابَ: لِأُمّْاتِ أو أُمَّهاتِ الرِّجال]، وَلَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ قَلْبَيْنِ أَلْبَتَّةَ في جَوْفِهِ).. فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَائِدَةٍ في ذِكْرِ الْجَوْفِ؟: قُلْتُ: الْفَائِدَةُ فيهِ كَالْفَائِدَةِ في قَوْلِهِ: الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ؛ وَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لِلسَّامِعِ مِنْ زِيَادَةِ التَّصَوُّرِ، والتَّجَلِّي لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ إِذَا سَمِعَ بِهِ صَوَّرَ لِنَفْسِهِ جَوْفًا يَشْتَمِلُ عَلَى قَلْبَيْنِ، فَكَانَ أَسْرَعَ إِلَى الْإِنْكَارِ)) وَعَلَّقَ أبو الحسنِ عليُّ بن محمد الجرجانيُّ بقولِه)): قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، أسدُّ ما ذكر فيه من التأويلات: أنهم كانوا يدَّعون لابن خطل قلبين؛ فنفى الله صحةَ ذلك، وقرنه بما كانوا يقولونه من الأقاويل المتناقضة كجعل الأدعياء أبناء الزوجات أمهَات.. قال: وهذه الأمور الثلاثة متنافية: أما الأول فلأنه يلزم من اجْتِماعُ القلبين قيامُ أحدِ المعنيين بأحدهما وضده في الآخر؛ وذلك كالعلم والجهل، والأمن والخوف، وغيرِ ذلك.. أما الثاني فلأن الزوجة في مقام الأمهَّات، والأم في محل الإكرام، فنافَى أنْ تكون الزوجة أُمَّاً، وأما الثالث فلأن النبوَّة أصالَةً وعراقةً، والدعوةُ لاصقةٌ عارضةٌ؛ فهما متنافِيانِ؛ وذكر الجوف ليصوِّر به صور اجتماع القلبين فيه حتى يبادره السامع بالإنكار)).
قال أبو عبدالرحمن: هذا كلام الزَّمَخْشَرِيِّ بعينهِ؛ ولكنَّ جُحْدانَهم إبداعاتِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وتجنِّيهم عَلَيْهِ كثيرٌ جِدّْاً؛ والزَّمَخْشَرِيُّ رحمهم الله جميعاً هو الذي فتح الباب على نفسِه بإغراقِه في الاعتزالِ الذي يجعلُ العقل حاكِماً على الشرعِ الْمُطَهَّرِ بعد نزوله؛ وإنما الْعَقْلُ مُصَدِّقٌ يالشَّرْعِ عند نزوله ببراهينِ الله في الأنفسِ والآفاقِ قاطِعَةً بأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى ذو الكمالِ الْمُطْلَقِ، الْمُنَزَّهُ عن كلِ نَقْصٍ وعيب؛ فكمالُه لا يقبل إضافةً، وَتَنَزُّهُهُ لا يُقْبَلُ سَلْباً: لا يَقُوْلُ إلَّا الحقَّ؛ فالصِّدْقُ والْحِكْمَةُ من كمالِه.. وَحَسْبُكَ من مُغامَرات الزَّمَخْشَرِيِّ عفا الله عنه: أنه اسْتَفْتَحَ مُقَدِّمَةَ كتابه في نُسْخَتِهِ الأولى بقوله: ((الحمدُ لله الذي خَلَقَ القرآنَ))؛ فَنَصَحَهُ مُرِيْدُوْهُ بترْكِ هذه الْمُغامَرة؛ لأن الناس لَن ينتفعوا بكتابه.. وبالفعلِ انْتَفَعَ الناس بكتابِه بعد حَذْفِهِ مغامَرَتَه تلك.
قال أبو عبدالرحمن: وللإمام أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى كلامٌ في هذه الآية الكريمة خاطِئٌ جِدّْاً؛ لأنه عفا الله عنه لَمْ يُفَرِّق بين عودَةِ الْمُظاهِرُ إلى نقضِ ما ظاهَرَ مِنْه، وبين إعادَتِه ما قاله، والفرقُ بينهما لا يَغْلَطُ فيه عاميٌّ ولا عالِمٌ.. ولا تزال العامَّةُ إلى هذا اليومِ تقول عَمَّن أَقْسَمَ بالله أنَّه لن يَفْعَلَ ذلك الشيئَ، وأنَّه حَرَّمَهُ على نفسه، ثم أرادَ أن يَسْتَبيْحَ ما حَرَّمَه، وأَقْسَمَ على تركهِ): رَجَعْتَ في كلامِك، وربَّما قالوا: واعَيْباه رَجَعْتَ في كلامِك؟!، ولا يقولون: (أَعَدْتَ كلامَكَ)؛ فمهما أَعادَ ما قالَه فهو مُؤَكِّدٌ قَسَمَهُ وتحريْمَه؛ ولذلك حديثٌ يأتي، وإلى لقاء عاجلٍ قريبٍ إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.