أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أعود الآن إلى بقية كلام الإمام ابن جرير.. قال رحمه الله تعالى: ((حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} قال: كان زيد بن حارثة حين من الله ورسوله عليه، يقال له: (زيد بن محمد)..
كان تبناه، فقال الله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [سورة الأحزاب/ 40].. قال: وهو يذكر الأزواج والأخت؛ فأخبره أن الأزواج لم تكن بالأمهات.. أمهاتكم [أي أن الأزواج أمهاتكم]، ولا أدعياءكم أبناءكم.. حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد: عن قتادة [قال]: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ}: وما جعل دعيك ابنك.. يقول: إذا ادعى رجل رجلاً وليس بابنه)).
قال أبو عبدالرحمن: ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره (6/ 155) ما ذكره الإمام ابن جرير مع غيره ملخّا رحمهم الله جميعا؛ فقال: ((يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي أمراً حسياً معروفاً، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله: (أنت علي كظهر أمي) أما له: كذلك لا يصير الدعي ولدا للرجل إذا تبناه؛ فدعاه ابنا له؛ فقال: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} كقوله عز وجل: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [سورة المجادلة/ 2].. وقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ}: هذا هو المقصود بالنفي; فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم.. كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة؛ فكان يقال له: زيد بن محمد؛ فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق، وهذه النسبة بقوله {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ}، كما قال في أثناء السورة: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [سورة الأحزاب/ 40] وقال هاهنا: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ}: يعني: تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابناً حقيقياً، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر؛ فما يمكن أن يكون له أبوان، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان.. {ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} الآية، وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرم الله عليه الجنة ((.. حدثنا أبو كريب قال: ثنا ابن أبي زائدة: عن أشعث: عن عامر قال: ليس في الأدعياء زيد)).. وإليكم الآن كلام الإمام ابن حزم.. قال رحمه الله تعالى في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) 8 /117 نشر دار الحديث بالقاهرة عام 1426هـ: ((قال تعالى: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطعِندَ اللَّهِ} [سورة الأحزاب/ 4، 5] وقال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [سورة المجادلة/ 2]؛ فأنكر تعالى غاية الإنكار: أن يجعل أحد أمه غير التي ولدته، ولا أن يجعل ابنه إلا ولده [أي لا يجعله إلا ولده].. وهو تعالى قد جعل أمهاتنا من لم تلدنا كنساء النبي صلى الله عليه وسلم، واللواتي أرضعتنا، وجعل أبناءنا من لم نلده، كنحن لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وكمن أرضعه نساءنا بألباننا)).
قال أبو عبدالرحمن: [معنى كلام الإمام الأخير المعقد مع أنه رحمه الله تعالى إمام في الفصاحة والبلاغة وجمال الأسلوب؛ ولكن العصمة لله وحده]: أنه وردت حالات استثنائية وصف فيها ربنا سبحانه وتعالى نساء بأنهن أمهات لنا وهن لم يلدننا؛ وهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن؛ وهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا اللاتي أرضعننا؛ فهن أمهاتنا ولم يلدننا؛ فنحن إذن أبناء أمهات المؤمنين ولم يلدننا؛ وهكذا نحن أبناء مرضعاتنا ولم يلدننا.. وغرض أبي محمد من إيراد هذه الاستثناآت: أنه لا يحل للمسلم أن يتجاوز ما ورد النص باستثنائه؛ فذلك مستثنى بخصوصه من عموم النهي عن وصف من لم تلدك بأنها أم، وعن وصف من لم يخرج من صلبك من زوجتك بأنه ولدك.. ثم قال الإمام أبو محمد رحمه الله تعالى: ((فصح بالنص أن الشيىء إذا حكم الله تعالى به فقد لزم دون تعليل، وأن من أراد أن يحكم بمثل ذلك بما لا نص فيه فقد قال منكرا من القول وزورا، وأنه ليس لأحد أن يقول بغير ما لم يقل الله تعالى به؛ وفي هذا كفاية لمن جعل (نحن وهم) نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتنا في التحريم كما جاء النص فقط؛ ثم لم نقس على ذلك رؤيتهن كما نرى أمهاتنا، بل حرم ذلك علينا، ولا قسنا إخوتهم وبنيهم على أخوال الولادة وإخوة الولادة؛ بل حل لهم نكاح نساء المسلمين، وحل لرجال المسلمين نكاح أخواتهن وبناتهن.. بطل [الأفصح: إذن بطل] حكم القياس يقينا، وصح لزوم النص فقط، وألا يتعدى أصلا)).
قال أبو عبدالرحمن: إنكار أبي محمد رحمه الله تعالى التعليل لا وجه له؛ فالتعليل إذا صح دليل ضروري من العقل ومصادره الحسية، وأبو محمد يأخذ بضرورات العقل في أكثر من موضع، وقد أصل ذلك في كلامه عن (حجج العقول) بكتابه (الإحكام لأصول الأحكام)، وفي كتابه (التقريب)، وفي أكثر كتبه.. والتعليل ههنا لا يختلف فيه اثنان ممن لم يفقدوا عقولهم: أن الحس يشهد للعقل بأن من لم تلدك ليست أما لك بتسمية اللغة عند الأمم وأهل الأديان؛ وأبو محمد رحمه الله تعالى في تأصيله؛ (وهو تأصيل يقيني لا يصح غيره): أن البراهين التي لا يصح غيرها، وعنها يتفرع كل دليل صحيح: يكون برهانا على مسألة فرعية مثل أن (الوتر) غير واجب؛ لأن الله حدد الصلوات المفروضة الواجبة التي هي ركن لا يصح الإسلام بدونها؛ لأن الله حكم بأنه لن يفرض صلاة غيرهن، ولا يبدل القول لديه جل جلاله؛ وبهذا كان (الوتر) سنة مؤكدة لا فرضا.. تكثر به الحسنات، ويحط به كثير من السيئات، ولا يتحمل تارك الوتر وزرا إلا ما استثناه نص آخر؛ وهو أن يترك الوتر مدى عمره رغبة عن الخير والسنن المؤكدة،وذلك ببراهين مركبة؛ وهي ذم الله من رغب عن ملة إبراهيم الخليل عليه صلوات الله وسلامه وبركاته (ومحمد صلى الله عليه وسلم على ملة أبيه إبراهيم).. قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [سورة البقرة/ 130]؛ وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق)؛ والحس التجريبي شاهد للعقل بأن المصلي غير مستغن عما يجبر صلواته؛ لتكون تامة؛ فهو يسهو، ويغفل عن مواجهته ربه، ومناجاته؛ وذلك بكثرة حديثه نفسه، وبوساوس الشيطان وأماني الغرور [بضم الغين المعجمة] من قبل الغرور [بفتح الغين المعجمة] لعنه الله، وربما سرح واستراح مع وساوس تهدم الدين.. ومثل مسألة (الوتر) من نذر أن يصلي صلاة مشروعة غير واجبة؛ فأصبحت بالنص الاستثنائي واجبة عليه؛ وعليه أن يكفر عن نذره لربه.
قال أبو عبدالرحمن: وإجراء العلل سواء أكانت العلة قاصرة، أم كانت متعدية: ليس قياسا عند الجمهور، وليس هو قياسا عند أبي محمد؛ بل هو يسمي إجراء العلة (الباب الواحد)؛ أي أنه حجة عقل عامة، فليس أحد أفراد حجج العقول بأولى بأن يقاس عليه من حجة العقل الأخرى.. ثم إن أبا محمد يقيس؛ ليظهر أن الحكمين من باب واحد ليس أحدهما بأولى من الآخر بأن يكون مقيسا عليه؛ بل إن أبا محمد قاس قياسا شنعيا؛ ليخرج من إحراج المالكية، إذ قاس الوتد من الخشب الذي لا توجد فيه شهوة على ذكر الرجل الذي جعل الله فيه الشهوة كما حققت ذلك منذ سنوات بهذه الجريدة.. والتعليل عند أبي محمد ضرورة عقل في تفسيره قوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [سورة النساء/ 11]؛ فوفق في جعله الثلثين للأب؛ لأن كل مال ذهب ثلثه فقد بقي ثلثاه بضرورة العقل من مصدره الحسي من الحساب بالأصابع؛ فما بقي من الإرث فهو لمن بقي من الورثة، ولم يبق غير الأب؛ لأن الوارثين الأم والأب فقط؛ فالثلثان للأب.. ولكن الإمام أبا محمد رحمه الله تعالى نسي هذا الأصل الضروري في تفسيره قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}} [سورة البقرة/ 73] فأنكر أن الله أحيا المقتول، وأنه أخبر باسم قاتله، وعطل {كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى}، وعطل أيضا قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [سورة البقرة/ 72]؛ وهذا أيضا حققته في هذه الجريدة منذ أعوام، وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.