عبدالعزيز السماري
انتصرت لجنة تابعة للأمم المتحدة قبل أيام لجوليان أسانج مؤسس ويكيليكس، والذي اعتقل تعسفياً طيلة مدة بقائه في سفارة الإكوادور بالعاصمة البريطانية لندن منذ العام 2012، وأسيانج كان رمزاً لأكبر محاولة في التاريخ لفضح الوجه الآخر للحقيقة التي تتباهي بها السلطة الأهم في التاريخ الحديث..
وذلك عندما أطلق برنامجه الشهير ويكليكس، والذي نجح من خلاله في تسريب وثائق تشكف الوجه الآخر للمعرفة التي تفرضها السلطة الأقوى، وكانت سياسة الولايات المتحدة الهدف الأعلى من تلك العملية، بصفتها الراعي الأعلى للسلطات في العالم.
كان ثمن تلك المواجهة أن دخل في صراع مع الأخطبوط الأمريكي، وكان ثمنها أن تم تشويه سمعته، ثم محاصرته في مبنى سفارة في العاصمة البريطانية، لكن المتغير الأهم في المواجهة التي دائماً ما يكون مصيرها هو الفشل، أنه انتصر أخيراً، وذلك بعد تقرير اللجنة الأممية، لكن المواجهة لم تنته، وقد تنتهي قضيته في يوم ما بانتحاره في شقته برصاصتين في أعلى رأسه.
وقصة الرصاصتين لها حكاية أخرى مع متمرد آخر مع الحقيقة والسلطة، ودفع ثمنها سمعته وشهرته وحياته العملية، ثم أخيراً حياته برصاصتين في رأسه، وذلك عندما قرر المراسل الصحفي الأمريكي غاري ويب مواجهة السلطة بالوجه الآخر للحقيقة المعلنة، بعدما كشف في تحقيقات صحفية تورط وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA في تسليح متمردي الكونترا في نيكاراغوا.
كانت العملية الاستخباراتية تقوم على استيراد كميات هائلة من الكوكايين إلى كاليفورنيا، ثم بيعها عبر تجار المخدرات في شوارع المدن الأمريكية، ثم استغلال عوائدها المالية في مهمة تسليح متمردي الكونترا، ودفع غاري ويب بسببها ثمناً غالياً، بعدما أصبح هدفاً لحملة تشويه كبيرة من قبل وكالة المخابرات المركزية، وشارك فيها الإعلام الرسمي، وكان لها تداعيات خطيرة على حياته الشخصية والعائلية، انتهت بانتحاره برصاصتين في رأسه!
مواجهة الحقيقة التي تؤمن بها وتدافع عنها السلطة أياً كانت لها أثمان مختلفة، وتختلف بقدر مستوى السلطة المواجهة، ولذلك تمر في حياتنا اليومية أمثلة عديدة من المواجهات الصغيرة، وقد تكون في أبسط أمثلتها أن يواجه الابن أباه في سلطته التي يفرضها عليه بتعسف، ومن أمثلتها الشائعة أيضاً أن يواجه الموظف الصغير المدير العام في سوء إدارته أو تعسفه، فيخسر ترقياته وفرصه الوظيفية.
في أروقة السلطة العربية النخبوية بمختلف أوجهها المعاصرة عادة ما تكون المواجهة محصورة في قضية احتكار الحقيقة الدينية، والتي تتنافس عليها القوى الاجتماعية، فكل يدّعي رعايتها وأحقية تمثيلها، في حين ما زالت الحالة الثقافية في الصراع أقل تداولاً وشهرة، وذلك لأن الثقافة ما زالت حالة طارئة على المجتمع العربي، وتمثل حالة من الوجاهة في بعض أوجهها..
بينما تمثل الثقافة في جوهرها الحقيقي حالة من المعارضة العقلانيه للحقيقة في مفاهيمها السلطوية، ولذلك يخرج من حين لآخر مواجهات من فصول الصراع الشرس بين الحقيقة المطلقة والثقافة، وتسبب عادة حالة من الارتباك عند العامة، ويتم احتواؤها بفرض أقسى العقوبات الممكنة على المتمرد.
كان ميشال فوكو، (مفكر وفيلسوف فرنسي (1926-1984م)، أفضل من قدَّم أرضيَّة متحركة لعلاقات السلطة والقوى في المجتمع، والتي بحسب فلسفته تكون في حالة توالد مستمر، وبهذا المنظور، ليست السلطة بالضرورة هي السلطة العليا، وليست هي نابعة دائمًا من الأعلى، بل هي حالة متداخلة، وتبرز للإنسان في كل اتجاه، ودائماً ما تتفاعل مع محيطها.
فالفرد محكوم بسلطة الإدارة التي يعمل بها، وسلطة العقيدة التي يؤمن بها، وسلطة العادات والتقاليد التي يمارسها، وسلطة الأسرة التي ينتمي إليها، وسلطة الدولة التي يعيش فيها، وهكذا فالإنسان محكوم بسلسلة لا متناهية من السلطة المحيطة به بشكل دائم.
لذلك تعتبر حالة الطاعة المطلقة للسلطات المحيطة بالمرء وثيقة أمان وسلام، وقد تكون أحد أهم شروط سلامته في المجتمع، وإذا ما حاول أحدهم الخروج عن طواعية الحقائق، التي تتبناها مختلف السلطات من حواليه، يخسر كثيراً في حياته الاجتماعية والمادية، وقد يدفع ثمناً غالياً للحقيقة الجديدة التي يحاول أن يروجها، والله المستعان.