عبدالعزيز السماري
فجرت تسجيلات «الواتساب» المنسوبة للدكتور الجامعي المسكوت عنه في المجتمع السعودي، وكانت أسئلة أقرب إلى الألغام التي انفجرت في حوار بينه وبين بعض المشايخ، وكانت الطامة الكبرى أن تم تسريبها إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ونتج عنها إيقافه عن التدريس في الجامعة، وستخلف هذه القضية آثاراً سلبية، كان من الأنسب احتواؤها داخل أروقة الحوار العلمي.
لن يكون بمقدور أي كان أن يدافع عن تلك الأفكار التي أطلقها الدكتور في حواره الهادئ والصاخب في الوقت نفسه، فقد تجاوز القدر المعقول من التمرد إلى أبعد من ذلك. ولست هنا لأحكم على إيمانه، فالإيمان بالله عز وجل أعمق من أن نحكم عليه بالظاهر، وسيظل للدين مكانته العالية في عقول المسلمين، ولن تتأثر مكانته، لكن يظل السؤال الأكثر إلحاحاً: لماذا يحدث مثل هذا في مجتمع متدين؟ وكيف نتعامل مع من يعيش في قلق تجاه بعض المسلمات؟
أعتقد أن العامل الأول في هذا الحراك المتمرد والخارج عن النص هو الإصرار على تقديم الدين من قبل بعض الناس على أنه يجيز الذبح والاغتصاب، بالرغم من كثرة النصوص التي تحث على السلام وعلاقات الرحمة مع الآخرين، وقد وصل تأجيج هذه الأفكار إلى أن خرجت في تلك الصورة الدموية كما تقدمها بعض الجماعات الدينية عند السنة والشيعة، ومع ذلك يسكت بعض علماء الدين من مجابهة هذه الأفكار المسيئة للإرث الإسلامي.
كثيراً ما أتساءل عن المغزي من تقديم المسلم على أنه المقاتل الذي يحمل في يده اليمنى الرشاش، وفي بده اليسرى السكين الحادة، وعلى صدره يجثو الحزام الناسف، وما المغزى من نشر الأخبار أن المجاهدين قسموا بينهم غنائم المراهقات اليزيديات ليستمعوا بها جنسياً، ولماذا لم تختر الصحوة الإسلامية كما يُطلق عليها تقديم صورة متحضرة ومدنية عن المسلم الملتزم، واختارت المجاهد المقاتل أن يكون رمزها النموذجي.
لا شك أن تسييس الدين وتطويع التراث بمختلف نصوصه ومراجعه لخدمة الأغراض السياسية كانت السبب الذي شوَّه كثيراً الدين الإسلامي في هذا العصر وما قبله، ولا يقتصر تسييس الدين فقط على الإخوان المسلمين أو الجماعات الإسلامية، أو ولاية الفقيه، ولكن يكاد يسيطر على مختلف الفعاليات السياسية في التاريخ العربي والإسلامي، وقد استخدم الطغاة العرب في التاريح الحديث الدين للسيطرة على الناس.
ظاهرة الإلحاد في المجتمع السعودي لم تعد أمراً خافياً، فقد تم الاعتراف بها، وأصبحت مصدر قلق للمجتمع، وقد نشرت صحيفة عكاظ في خبر لها في يوم 16 ديسمبر 2014، أن المملكة تعتزم عبر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تأسيس مركز «لمكافحة الإلحاد»، أطلقت عليه اسم «يقين» تحت إشراف «الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة والأديان»، جاء ذلك في سياق إقرار القائمين على المركز بوجود نسبة تقدر بـ 10% من الملحدين في البلاد.
يرى بعض الباحثين أن هذه الظاهرة لا يمكن اعتبارها إلحادًا صرفاً، بقدر ما هي تشكيك في تسلط الخطاب الديني المتشدد والمتطرف في المجتمع، وقد تكون بعض أوجهها أقرب إلى ظاهرة الثقافة، والتي تأخذ موقفاً مناهضاً لتشدد التيار السلفي في آرائه المحرمة لمختلف أوجه الحياة، فقراءة الروايات العالمية، وتبني الأفكار الفلسفية والسياسية، يستخدمها بعض الناس للتمرد على الخطاب الفقهي المتشدد.
يظل السؤال الأكثر جدلاً عن كيفية مواجهة مثل هذا التيار الذي ينمو مهما حاولنا إخفاءه، وأصبح يشكِّل نسبة غير قليلة من المجتمع، وإن لم يصل بعد إلى مرحلة التنظيم، ولكن أصبح يشكِّل موقفاً في غاية التطرف من التسلط والتكفير والإقصاء باسم الدين.
هل سيكون الحل بإطلاق أحكام الردة على المخالفين ثم قتلهم في الميادين، أم أن الحل يجب أن يكون مختلفاً وأقل حدة، فالعنف ليس حلاً بشكل مطلق، ويجب أعطاء المرء فرصاً لمراجعة أفكاره، وأن يتم التعامل معهم كالأبناء الذين اختاروا وسيلة غير صحية لمناهضة التطرف، ودائماً ما تحضر في هذا السياق سيرة الراحل والعالم المؤمن مصطفى محمود، والذي أوجزها في كتابه الشهير «رحلتي من الشك إلى الإيمان».
فقد قضى ثلاثين عاماً من المعاناة والشك والنفي والإثبات، والبحث عن الله!، قرأ وقتها عن البوذية والبراهمية والزرادشيتة ومارس تصوف الهندوس القائم عن وحدة الوجود حيث - حسب دياناتهم - أن الخالق هو المخلوق والرب هو الكون في حد ذاته وهو الطاقة الباطنة في جميع المخلوقات، ولو تم تنفيذ حكم الردة فيه لحُرم فرصة العودة إلى الإيمان الصحيح، وخروجه بعد ذلك في برنامجه الشهير العلم والإيمان.
كذلك قبل أن يستقر أمر العالم الشهير أبو حامد الغزالي على الإيمان بالله، مرَّ بمراحل كثيرة في حياته الفكرية، كما يرويها هو نفسه في كتابه «المنقذ من الضلال»، فابتدأ بمرحلة الشكّ بشكل لا إرادي، والتي شكَّ خلالها في الحواس والعقل، وفي قدرتهما على تحصيل العلم اليقيني، ودخل في مرحلة من السفسطة غير المنطقية إلى أن وصل إلى شاطئ الإيمان بالله ثم تحوله إلى عالم إسلامي مجتهد كان له عظيم الأثر في تاريخ المسلمين، ولو تم تنفيذ حكم الردة عليه لخسرناه كعالم لا يُشق له غبار.
من خلال هذه الرؤية يجب عدم الانجراف خلف القراءة الدموية غير الصحيحة للدين الحنيف، والعمل على تقديم صورة متسامحة للفكر الديني، كما يجب إخراج رجل الدين من أداء دور المتسلط على المجتمع، وذلك من أجل إيقاف تنامي ظاهرة الإلحاد، والتي تبدو في ظاهرها أحياناًً خروجاً عن الدين، وأحياناً أخرى ربما تعبّر بصورة شديدة التطرف ضد ظاهرة التطرف الديني في المجتمع، والله المستعان.