عبدالعزيز السماري
كان مجتمع الجزيرة العربية يميل إلى العيش في العزلة، فقد كان سكانه نادراً ما يسافرون إلى خارج مناطقهم، وكان الغائب عن قريته في سفر إلى بلاد الشرك والكفر يُعاقب معنوياً بعدم السلام عليه لمدة ثلاثة أيام..
كانوا بسبب ذلك يعيشون في حالة انطواء واختباء مزمنة، ولا يشاهدون في العالم غير ظلالهم الطويلة في شمس الصحراء الحارقة، لكنهم مع ذلك يستمتعون في عزلتهم، ويعشقونها إلى درجة كبيرة، لذلك كان من المتعة أن ينصب أحدهم خيمته في وسط صحراء، ويعيش هناك وحيداً وسعيداً في داخلها لفترات طويلة بالرغم من الفقر الشديد للطبيعة وعوامل الحياة والرفاهية.
كان أحد أهم أسباب قناعاتهم في ذلك الزمن قلة الحيلة إضافة إلى حكم تحريم السفر إلى بلاد الكفر والتي تعني بلاد ما وراء الحدود المتعارف عليها، وكان السكان ملتزمين بقانون التحريم في ذلك الوقت، ولا يسافر منهم إلا القادر المتمرد على شريعة العزلة، والذي عادة ما يواجه نظرات الاستنكار والإقصاء.
عندما حدثت المعجزة السياسية في وسط الجزيرة، والتي أدخلت بقيامها المكونات المتباعدة والمنعزلة في طور الدولة، ثم أعقبها اكتشاف النفط بكميات هائلة..، كان ذلك إيذاناً بتغيير أحوالهم، وأصبحوا بمرور الوقت أكثر جرأة على قرار السفر إلى الخارج والمتعة برغم من موقف التحريم، فقد وصل رقم المغادرين من المطارات المحلية إلى أرقام عالية، وينتشرون بكثافة في البلاد المجاورة، وبعضهم يسافر إلى أبعد من ذلك، لكنهم لم يخرجوا بعد من الصندوق، ولم يتخلوا بالرغم من ذلك عن ثقافة العزلة في سلوكهم واختياراتهم.
فطبيعة العيش في الداخل لم تتغير كثيراً، ويبدو أن قدرهم في اختيار الاختباء متجذر في عقلهم الباطن، وأشبه بخيار الحياة خلف الجدران، ويصعب تجاوزه بطفرة مادية مؤقتة، لذلك تجدهم في عطلات نهاية الأسبوع ينتشرون في الصحاري المجاورة، ويعيشون أحياناًً في خيام مغلقة في عمق الصحراء، ويقضون الليالي دون ملل مع أنها تفتقر إلى عوامل الحياة، وأبسط متطلبات العيش، لكن يبدو أنها تجلب لهم سعادة العزلة التي يتمتعون بها في وحدتهم خلف الكثبان أو الجدران.
يظهر ذلك بوضوح في ندرة المقاهي في ميادين القرى والمدن، فليس من عادات الناس أن يتجمعوا في مقاه شعبية مثل الآخرين في البلاد البعيدة، أو الاستمتاع بالجلوس على الرصيف في أحيائهم أو شوارعهم كما يفعلون في الخارج، وما زال خيارهم المفضل أن يكون لهم خيمة أو ملحق صغير داخل سور البيت، أو استئجار استراحة محكمة الإغلاق، للتجمع ثم ممارسة عاداتهم التي يرفضونها داخل عقلهم الجمعي.
هم يمارسونها لغرض المتعة المؤقتة قبل العودة إلى ثقافة رص الصفوف والالتزام في صباح الغد، ولذلك هم يمارسونها دون تقدير لنعمة الحرية، ولكن كحالة عصيان مؤقتة، هي كالابتلاء الذي لا مفر منه بحسب تعبيرهم، ويمنون النفس دائماً بيوم يتوبون فيه عن إثم الفرح والمتعة والسرور، لكنهم مع ذلك لا يتراجعون، وقد يقتلهم تأنيب الضمير، وهم لا يشعرون.
تتجاوز العزلة الاجتماعية مفهومها التقليدي إلى المجالات الأخرى، فثقافياً كانوا يرفضون التنوع الأثني، ويقفون موقفاً حازماً من الاختلاف في الأفكار، ويمكن إعادة ذلك أولاً إلى استبداد ظاهرة العزلة في انطوائهم الاجتماعي المزن، وثانياً إلى الفهم المتطرف للدين، ويظهر ذلك في الحياة الاجتماعية بوضوح، فرغم العدد الهائل من العمالة الأجنبية إلا أن مظاهر الحياة الاجتماعية في المدينة والقرية ما زالت فقيرة جداً، والمفاجأة أن وجود الأجانب أسهم أكثر في خدمة حالة العزلة الداخلية.
استبشر الكثير بخروج هيئة للسياحة في الوطن، والتي تعني للمهتمين بالتطور الاجتماعي أن هناك مساعي رسمية للخروج من ثقافة العزلة، والبحث عن نوافذ للانفتاح على الخارج، وبالرغم من مرور سنوات على بدئها إلا أن شيئاً كثيراً لم يتغير، فالانطباع عن المجتمع المغلق ما زال هو الأكثر رواجاً في الخارج، والسبب قلة الزوار وندرة القادمين من الخارج لغرض السياحة في البلاد.
أهمية تفعيل السياحة واستقبال السواح في البلاد ستفتح فرصاً حضارية للمجتمع وللسواح في أن يتقابلا داخلياً، وأن يحتفلا بفتح صفحة جديدة، وبدء رحلة سياحية إلى آثار ومعالم العزلة الحضارية القديمة، ثم التعرف على المتغيرات الجديدة في المجتمع.
الأهم من ذلك تأكيد حالة الخروج من العزلة إلى الخارج حيث النور والأصدقاء والحياة الاجتماعية المفتوحة، وتبني مشروع أحياء مظاهر السعادة في ميادين المدن والقرى بنشر المقاهي المفتوحة والاسترخاء على كراسيها لفترات طويلة، على أمل أن تظهر الابتسامة وملامح السرور على الوجوه التي عانت من تأنيب الضمير والكآبة والانطواء والاختباء خلف الجدران الصامتة لعقود طويلة.