أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: في بحوثي عن تحرير نظرية الإحساس الجمالي، وارتباطها بالمعرفة والعلم: بَيَّنْتُ أنَّ كلَّ جمال لذة، وليس كلُّ لذةٍ جمالاً، بل الجمال خصوصُ لَذَّةٍ، وهو لذةُ القلبِ وسروره بمرئيٍّ أو مسموع.. وأما ما كان بالحاسة كالْـمَذُوق باللسان، أو الملموسِ باليد، أو ما لامسه الجلدُ كالنسيمِ العليل الْـمُنعشِ النفسَ، أو مداخلةِ العضو شيئًا
آخرَ يلتذُّ به كتداخلِ الأعضاء في مسألةِ
(الباءة)؛ فذلك كلُّه شهواتٌ ولذات آنية مُنْطَفِئة بإشباع الدافع؛ وليست كل لذة عن ملامسة تكون جميلةً، بل منها شهوات مستقبحة بمعيارَيْ الحق والخير؛ فالجمال حقيقةً هو ما حصل عن إحساس نظر أو سمع، ثم ما ترتب عليه من لذة فكرية كلذة الخيال.. والْمُتَخيَّلُ تركيبٌ وليد لا نملك نفيه من الوجود، كما لا نملك إثبات وجوده؛ لأننا لا نحيط بالموجودات في كون الله.. إلا أن هذا التركيب بإبداع الخيال محالٌ أنْ يتم إلا بتصور أجزائه الموجودة التي هي تحت إدراكنا معرفةً وعلماً؛ فالتخيل والخيال في النص الأدبي اِخْتلاق صورٍ لم يشهدها الحسُّ بذلك التركيب؛ وإنما كانت صورُ أجزائها مِمَّا جرَّده العقل من إدراك الحس، واحتفظت به الذاكرة.. ثم إنَّ تلك الصورة المركبة قد تكون معقولة؛ بمعنى أنَّ العقل لا يستبعد وقوعها في الخارج كما في الأدب الواقعي من تخيُّلِ أحداثٍ صادرة عن أشخاص متخيلين من أهل المواهب والغباء في أماكن متخيلة، ومثل هذا المتخيل يقع أمثالُه في حياة البشر.. ومِن التخيُّلِ ما يستبعد العقلُ وقوعَه، ومنه ما لا يكون مستبعداً.. ومثالُ ما هو مستبعد: أنْ يكون المتخيَّلُ في زمنٍ غابر أحاط به التاريخ استقراءً: فلم يجد فيه مكاناً لأحداث ذلك التخيل كروايةٍ عن العصر الجاهلي عن قوم في سَنَةٍ مجدبة أُلهموا صلاة استسقاءٍ شرعية قبل نزول الشرع، ونسجوا في حوارِهم نسيجاً من المعاني والابتهالات التي لم تُعْرَفْ إلا بعد نزول الشرع؛ فأُغيثوا، ورأوا أشخاصاً عُلْوِية، وأينعت الأرضُ قبل الأوان المعتادِ، وكثر الضأن والماعز والإبل بالتناسل، وامتلأ الضرع قبل الأوان، وكانت الحبكة عجائبية باهرة؛ فهذه لذة خيالية جمالية، ولكنَّ العقل يستبعد وقوعها في ذلك الزمان، وهي خلاف مجرى العادة؛ فإن لم يكن وراء هذا الخيال العجائبي رمز معقول دال: فإن جمال الخيال يتضاءل؛ فيكون بارداً تذهب متعته بالتدريج؛ فيصبح لغواً لا لذة فيه.
قال أبو عبدالرحمن: ذهب كل من (كولردج) و(وردزورث) وغيرهما إلى أنَّ الفَنَّ أثرٌ من آثار الخيال؛ ومِن الفن الشعر.. ومعيارُ صحةِ هذا الرَّأْيِ أو بطلانُه: أنْ يوجد نصٌّ شعري مُعْتَدٌّ به جماليًّا وهو مجرد إلا من عناصر الخيال.. وجمهور النقاد يقيِّدون مفهومَ الخيال بأنه ما صدر عن وعي عقلي ليس كخيالات النائم، وأنْ تكون تأليفيةُ الخيال وتركيبيتُه غيرَ مستبعدة، وأن تكون دالَّةً.. وفئة ثانيةٌ (كما في كتاب (كولردج) لمحمد مصطفى بدوي ص 48 - 49 / طبع بالقاهرة سنة 1958م): ألغتْ قيمةَ الخيال في الفنون الجمالية بإطلاق من أمثال (جونسون) و(ديكارت) و(هوبز) و(دريدن)؛ فالخيال عندهم مملكةٌ فوضوية، وهو أمُّ الجنونِ والأحلامِ والأوهام والحمَّى.. وكاد ينحصر مجال الخيال لدى الكلاسيكيين في التعبير المجازي، والصور الحسية الجزئية!!.. مع أن التعبير المجازي إذا كان مأثوراً فحكمه أنه من المسكوكات؛ فيكون لا فضل فيه لموهبة الأديب.. وكونُ التركيبة الخياليةِ دالةً: شرطٌ يباركه أمثال (وليم بليكَ) الذي يَعُدَّ الخيالَ رؤيةً مقدسة، والفيلسوفُ (فِشْتَهَ) الذي قيَّد الخيال بوصفِ المنتج، والفيلسوف (شيلنج) الذي رأى الخيال فنيًّا الوسيلةَ الأولى لإدراك أي حقيقة، و(كِيْتْس) الذي يرى الخيال قوةً قادرةً على بلوغ الحقيقة القصوى، و(شيللي) الذي مايزَ بين الخيال والعقل ممايزةً توحي بأنَّ الخيال هو مصدر المعرفة في الفن.. قال: (إنَّ العقل يحترم الفروق بين الأشياء بينما يحترم الخيالُ مواضعَ الشَّبهِ فيها كما في كتاب (فلسفة الجمال في الفكر المعاصر ص 77)، ومن مصادره (دفاع عن الشعر)؛ وهو مقالة لـ(شِيْلَلِيْ).
قال أبو عبدالرحمن: العقل يريد الحقيقةَ كما هي في الواقع؛ فيحدِّدُ هُوِيَّتَها بالفوارق؛ وأمَّا الخيال (؛وهو من قوى العقل) فَيَجْنَحُ إلى المضاهاة الفنية لِما في الواقع من مشابهة ومقاربةً؛ من أجل إحداث عوالمَ فنيةٍ لها دلالتها على الحقائق؛ فيقيمُ عوالمَه الخيالية بأوجه الشبه بين الأعيان الواقعية.. ولي تحفُّظ في دعوى أنَّ الخيال مصدرٌ للمعرفة إذا فُسِّرتْ هذه المعرفةُ على مذهب (كولردج) الذي يرى أن الإنسان يتجاوز بالخيال عالَمَ الظواهر؛ فيدرك كُنْهَ حقائقَ مغيبةٍ؛ لأنَّ من تلك المغيَّبات ما يتعلق بصفات ربنا سبحانه وتعالى؛ ولأنَّ المغيَّبَ عن حِسِّ الأديب قد يكونُ من جنس عالَمِ الظواهرِ، وقد يكونُ مِن غير جنسه.. إنَّ لبنَ أهل الجنة، وزقُّومَ أهل النار ليسا من جنسِ عالَمِ الظواهرِ.. وربنا سبحانه وتعالى لا مِثْلَ له ولا شبيهَ ولا ندَّ؛ إذن كيف يدرك الخيالُ حقيقةَ ما وراءَ عالَمِ الظواهرِ من غير جنسها ومادُّتُهُ من عالَمِ الظواهر نفسِه، بل الواقع أنَّ الخيال ينطلق من معرفة أجزاءَ محسوسةٍ، ومِن علمٍ بالعلاقات والفوارق بينها، ومِن علمٍ بالمغيَّب: بمشاهدة آثاره، أو بخبر تواتريٍّ، أو خبرِ شرع معصوم؛ ويكون علمه وصفاً تقريبيًّا؛ فتنتهي لذةُ الخيال إلى رمزٍ دالٍّ على المثال الأعلى للجمال، أو في منتهى القبح.. وتكون دلالتُه عبرةً لإصلاح الواقعِ بعد إحساس المتلقِّي بما رمز إليه الخيال من جمال أو قبح؛ فهذا هو الجمال الخيالي الخالد.. ألا ترى أن عِلْمَنا بما وراءَ عالَمِ الظواهر وصفٌ مقارِبٌ غير مطابِق لما هو من عالم الظواهر؛ وإنما تكون المطابقة بالإحالة إلى ما لا يقبل إضافة ولا سلباً كعلمنا بأن الله هو الواحد الأحد في الكمال المطلق والتنزُّهِ المطلق، ولا نحيط بتحديد كيفيته بتشبيه أو كَمٍّ من خلال ما شاهدناه من بعض ظواهر الكون؛ وأما العلمُ بوصفه مطابقةً كما هو في الغيب فذلك علم صحيح.. مثالُ ذلك عِلْمُنا بأنَّ عظمةَ الكونِ صادرةٌ عن خالقٍ أعظم جاءت صفاته بالوصف مِن الخبر الشرعيِّ الصحيح؛ وهو وصف لم يعتمد التشبيه والتكييف والتحديد؛ وإنما أحال إلى الغايةِ في الوصف كالعلم بأن لله مطلقَ الحكمةِ؛ فيظلُّ العقلُ (ودعك من الخيال) بكلِّ حِيله الفكرية والخيالية قاصراً عن إدراك الحكمة بوصف مطابِق؛ وإنما يملك المطابقة بالعلم بأنَّ للهِ الْمَثَلَ الأعلى لا يشبهه شيىءٌ؛ فنظلَّ على الإيمانِ مَثلاً بأَّ حكمة اللهِ في منتهى الكمال الذي لا يقبل إضافةً، وفي منتهى التنزيه الذي لا يقبل سلباً.. وأما ما غاب عن حسِّ الأديب وهو من جنس عالَمِ الظواهر إذا لم يدرك العقلُ وقوعَه: فهو من الْمُحتَمَل؛ فقد يقع كما تخيَّله الأديب، وقد يكون مما وقع ولم يعلم به الأديبُ؛ وإنما تخيَّلَه.. وسواء أَوَقَعَ في الماضي أم في المستقبل: فلا يكون تخيُّلُ الأديب معرفةً؛ بل هو محتمل، ووقوعُه مصادفةً.. والمتخيَّل المحتمَلُ إذا تحقق شرطُه يقع؛ ولهذا حديث يأتي كما في قصة (سَلَمُون).. والخيال ليس قاصراً على التأليفيةِ التركيبية من عناصرَ واقعية؛ بل قد يكون جزئياً بأنْ تتخيَّلَ عيِّنةً واقعية، أو تتخيَّلَ صفاتِها أو آثارَها مركبةً بغير ما هي معهودة عليه في الواقع، والعقلُ لا يحيل تصوُّرَها كما تخيلها الأديبُ مثل مسرحية (الملك لير) لشكسبير؛ ففي هذه المسرحية نجد أنَّ الألمَ العميق الذي يُـحِسُّ به الأبُ جعله يَنْشُرُ الإحساسَ بالعقوق ونكرانِ الجميل حتى شمل العناصر الطبيعية نفسِها.. وقد ضرب (كولردج) المثالَ بهذه المسرحية في تعريفه الخيال.. وَخَلْعُ الانفعالاتِ على الجوامدِ كثيرٌ في مجازات الأدباء.. وأمَّا في مذهب الجمال الواقعي فقد ضَرَبَ الأستاذُ مجاهد المثالَ بقصة واقعية شاهداً للجدلية في التنظير الأدبي للأديب الماركسي (لوكاتش).. قال: (إنَّ قصةَ (بدرُ نشأتْ)؛ وهي (سلمون) في مجموعته القصصية (حِلْمُ ليلةِ تعبٍ) يمكن أنْ تصوِّر ما يقصده (لوكاتش).. إنَّ بطل القصة قد أغضب زوجتَه؛ فتركت له البيت إلى أهلها، وفي اليوم الثاني حمل معه علبة سلمون وخُبْزاً وزيتوناً؛ لكي يتناول طعام غدائه، وأثناء الأكل أخذ يقرأ في الصحيفة عن اكتشاف إشعاع ذري في بحر اليابان، وأن الأسماك تلوثت بالإشعاع؛ فتوقف عن الأكل، وقرأ على علبة السلمون: (إنها صنعت في اليابان)؛ فشعر بانقباض ولم يواصل، وشعر بوحشة شديدة وخوفٍ خشيةَ أنْ يأكل أولادُه السلمون ذا الإشعاعِ الذَّرِيِّ؛ فقرَّر أنْ يصالح زوجته.. إنَّ المشكلةَ الخاصَّةَ عنده أوْصَلَتْه إلى المشكلة العامة؛ وهذه المشكلةُ العامة أرْجعتْه إلى مشكلتِه الخاصة ولكنْ في ضوء جديد.. إنَّ الإنسان لا يستطيع أنْ يكون وحيداً، وإنَّه ينكشف جوهرُه (الذي هو التضامن البشري).. وعلى هذا نجد (لوكاتش) يقول في كتابه (دراسات في الواقعية): إنَّ أساسَ الأدب العظيم هو العالَم المشترك للناس؛ وهو الإيقاظ الذي تحدث عه (هيرقليطس)؛ وبدون وعيٍ يقظٍ للواقع لا يمكن أنْ تُصاغَ أية [الصواب أيُّ] سيماء فكرية؛ وبدون سيماء فكرية لا تنهض أيَّة [الصوابُ: أيُّ] شخصيةٍ أدبية إلى المستوى الذي به تسمو في حيويةٍ تامة للفردية على الصدفة (الصواب: المصادفة) البليدة للواقع اليومي، وترتقي إلى الرتبة المثالية فعلاً.. وإلى لقاء عاجلٍ قريبٍ إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.