أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: سَنَسْبَحُ في حلقاتٍ كثيرةٍ مع فنونٍ من نماذج العقْلِ الجمالِيَّ بمَشِيْئَةِ الله سبحانه وتعالى.. وحديثي اليومَ مع (وُهَيْبٌ الْكَيرُوْزُ) في بَحْثِهِ عن النظريةِ الجماليةِ؛ وهو بحثٌ شديدُ التَّعقيِدِ كتبه بعنوان (الجمالِيَّةُ وأبعادُها الكونيةُ).. بَدَأَهْ بفقرَة عنوانُها: (المسألةُ الجماليةُ)،
واسْتَهَلَّها بقوله: ((الجماليةُ بين دُرَب العقل الْمُتشعِّبةُ: مسألةٌ مفتوحةٌ؛ وكونها هكذا فهي أبداً سؤال يتوالد؛ وجواب العقل هو بدوره تفتيحُ أبعادٍ جديدةٍ.. إنها مسألة متحرِّكة ومحرِّكة في آن معاً.. هنا جدليِّتها الدائمة إنْ في مقوِّماتها التي تُفْلِتُ من المعايير، أو في أبعادها.. كونيةً كانت أو فوقَ كونيةٍ.. وإذا [الصواب: وإذْ] كلُّ دُرْبة من دُرَب العقل تُجْهَدُ؛ لتحدِّد كيانها: فالجمالية هي الأصعب.. إنها بأبعادها تصدُم.. إنها تأبى الإطارِية، كما أنها لا تُحَدُّ في موضوع؛ وهي على أية [الصواب: على أيِّ] حال لا تستسلم لأي منهجية؛ لذا: الجمالية [الأسلوبُ العربي: فالجمالية ُ] لانهائية.. ولا نهائيتها تُهْمِك العقل.. تُضنيه.. تُقَرِّبُه منها [أيْ تُقَرِّبُ العقلَ مِن النظريةِ الجمالية]؛ فلا يكاد يعقل أفقاً منها حتى يشفَّ ذلك الأُفُقُ في ملءِ وضوحه [أيْ وُضُوْحِ العقل] عن آفاق متلاحقة ضبابية سرابية؛ وكونها قائمة في الوعي فالعقل لا يكف عن المحاولة.. إنها هوى العقل وغُصَّته معاً)).
قال أبو عبدالرحمن: وَضَعَ (وُهَيْبٌ بعد كلمةٍ أو كلمتين علامَةَ الاستئناف؛ وهي نقطتانِ أُفُقِيِّتانِ هكذا (..) ووضع بعد كلِّ مُفْرَدة فاصلةً (واواً مقلوبةً؛ وهي الشَّوْلة)؛ وليس هذا أسلوباً عربياً، ولا هو من رموز النُّسَّاخِ في مصطلحاتِهم عند قراأَتِهم الْمَخْطوطاتِ؛ إذْ لا وجودَ للمطابِع؛ وهو لا يُفَرِّقُ بين الشولةِ التي هي للعطفِ والمُشاركة وبين الشولةِ المنقوطةِ من تحتٍ؛ التي هي للتفريعِ أو للتعليل حَسَبَ دلالةِ السِّياقِ.. وما نَقْلتُهُ مِن كلامِه قابِلٌ الضَّغْطَ في ثلاثةِ أسطرٍ بدونِ نقصٍ وحاجةٍ إلى زيادةِ بيانٍ.. وكلمةُ (تُهْمِكُ) في سياقِه قَلِقَةٌ، ويكفي عنها (تُضْنِيْهِ).. وليس مفهوم الجمال بهذا الْمُحال الذي تَفَنَّن في عَرْضِه بأسلوبٍ أعجمي؛ بل هو إحساس وُجْدانيٌّ يَهَبُكَ التَّعْرِيْفَ الجماليَّ بكل نموذج جمالي في الوجدان النفْسيِّ (الْجُوَّانيِّ) من إحساسٍ (وهو الإدراك الجماليُّ) باللَّذةِ الجمالِيَّةِ.. ثم قال: ((والعقل في محاولته(إذا تناول الجمالية عِلْماً) يعجز؛ لأنَّ المعيارية (خاصيَّةَ العلم الأوَّلِيِّ) تقضي على الذاتية مصدر الحسِّ الأوَّلي، وما يلازمه من انفعال ومن حياة جُوَّانية حِزينة؛ وإذا تَدَاوَلَها حياةً جوانيُّة تَمَسُّ الذاتيةَ [يريد النَّفْسِيَّةَ] موضوعَه؛ فيميل ناحية علم النفس [الأسلوب العربيُّ: فيميلُ إلى عِلْمِ]، كما أنه يُلْغي ما تبلور جمالاً ظاهراً، ويُئَيِّسُ الذات [أي النَّفْس] في إخضاعها له [أيْ يُخْضِعُها الانفعالُ] مفهوماً [أي حالَ كونِ الانفعالِ مفهوماً].. والشعورية بحد ذاتها عاجزة عن تبريرِ ذاتها؛ وهكذا: أمامَ مسألة الجمالية يتساءل العقل: أهي فلسفة؟)).
قال أبو عبدالرحمن: ما علاقَةُ علم النفس، أو علمِ الاجتماع بفهمِ معنى الجمال (الإدراكِ الْحسِّيِّ الْوِجداني)؛ وإنما دَوْرُهُما التَّصْنِيفُ الْفِئَويِّ لذوي الإحساسِ الجمالِي في ثقافاتهم وتربيتهم؛ فليست ذائِقَةُ مَنْ يَعْشِقُ شَبَّابَةَ الراعي (البوصَ القَصَبِيَّ) بلحنِ قصيدةٍ عامِيَّةٍ كَمَنْ يَعْشِقُ موسيقَى (بتهوفن).. ولقد أسهبتُ في هذه الجريدة مِنْذُ أعوامٍ عن اللذة الجماليةِ، وإليكم هذا النموذج من الشِّعْر الرومانسيِّ الْمُعَبِّرِ عَن فِطْرَةِ لا تَخْرُجُ عن فطرتنا؛ ومن طبيعتِنا؛ وهي البكاء والحزنُ الرومانسي الشَّرْقِيّْيِيْنِ؛ وهذا النموذجُ من شَعرِ (حسن فتح الباب ).. قال:
[حين أتاني الحزنُ ساعةَ المساءْ.
على جوادِه المعفَّرِ الجبينْ.
يبحث عني في ظِلال الْمُنْحَنَى.
وتحتَ ضوءِ القمرِ الحزينْ.
لَوَى عِنانَه وسارْ.
لأن قلبي كان في انتظارْ.
أنْ تُقْبلي يا طلعةَ النهارْ.
حمامةً وزهرةً ودارْ].
بربِّكم هلْ رأيتمْ لِلَذائذِ الحياةِ طَعْماً لولا سبْقُ مرارةِ الْمُعاناة؟.. إذنْ القيمةُ الجمالية الْمَحْضةُ (ولاَ أعْنِيْ الْمَضْمُوْنَ النفسِيَّ الْوِجْدانيَّ الْمَحْضَ) هي العطاءُ الأدبيُّ العالَمِيُّ الوحيد الذي تفاعل مع جماهير الأمة العربية وذائقتهم؛ والسِّرُّ في ذلك أنَّ طبيعة الشعر العربي منذ وُجِد تقوم على الغناء النَّفْسِيَّ مُفْعماً بقيمِ الجمال.. ومما أضيفه هَهُنا أنَّ: (دعوى الغموض) في عمل الأديب يتحوَّلُ إلى تأويلٍ وَتَمَعْلُمٍ في عَمَلِ الناقد والدارس؛ وعلى هذا فالعبرةُ بالأعراف الجمالية والفكرية والدلالية والثقافية الْمُتعاقبة في تغيُّراتِ العصرِ؛ فمِن كلِّ هذه الأعْرافِ تُؤْخَذُ الضوابطُ والأصول لِمَفْهوم الغموضِ والإرمازِ في كل نصٍّ؛ وبدون هذه الضوابط: يُفْتَحُ بابُ الدعَاوى الكاذبةُ في انتحالِ مفهوماتٍ لا يَدُلُّ عليها النص.. وقد ولج هذا الباب كثيرٌ من أمثال عبدالغني النابلسي في شرحِه شِعْرَ ابن الفارض، وشُرَّاحُ تائِيَّتِه ويائيته، والدباغ في كتابه مشارق الأنوار.. وثمة همٍّ حداثي رابع، وهو الواقعية في الشعر إلا أنَّ هناك الواقعيةَ الْمُشتقَّةَ من الأيدلوجية الشيوعية التي بشَّر بها محمود أمين العالم خصوصاً؛ فقد كانت جافَّةً، وإنما تصلح لِنَثْرِيَّةٍ خطابية صارمة تُصاغ بها بلاغاتُ الحزبِ وقراراته.. ولم تُبشِّر الواقعيةُ بشرطها الْيَسَارِيِّ بأدبٍ موهوب ألبتة؛ وإنما هو تفلسف نُقَّادٍ؛ ولهذا فشاعرٌ موهوبٌ مُرْهَفُ الْحِسِّ كصلاح عبدالصبور: لم يَقْوَ على تجميدِ موهبته بالتقوقع في تخثُّرِ الواقعية؛ بل كان أوَّلَ رائدٍ حَداثي في كنانةِ الله يتحوَّلُ مِن تَخَثُّرِ الواقعية اليسارية إلى واقعية النفسِ التي يُسَمِّها الجاهلون ميتافيزيقا.. إنها واقعية المواهب الفردية تأملاً وإحساساً ووجْداً ووعياً؛ وهي الواقعية الأم التي يشترك فيها الْمُفكِّر المتفوق، والفطريُّ الساذَجَ؛ بينما تَسْلَخُ الواقعيةُ الشيويعةُ سوادَ الشعب، وتجعله عبداً للحزب.. ولا يملك الأدب الواقعي إلا من يحاجِيْ بمعضلاتِ الفكر، والنادِّ مِن الأفكار الْمُجرَّدة مِن العلم الْمَادي، وقد لَفَتَ إلى هذا صلاح عبدالصبور في ديوانه (أقول لكم ).. قال:
[لم يكُ يوماً مثلنا يستعجل الموتَ.
لأنه كل صباح كان يصنع الحياة في الترابِ.
ولم يكن كدأبِنا يلغط بالفلسفة الْمَيِّتَةِ.
لأنه لا يجد الْوَقْتَ].
وهذا خيرُ تفسيرٍ لما يقال عن بَرَمِ الأديب بعصره بالنسبة لِرُوَّادِ الرمزية في الغرب.
قال أبو عبدالرحمن: إذا كان (فَتْحُ البابِ) تَغَنَّى بِمَقْطُوْعَتِهِ بِتَلْحِيْنٍ قويمِ الوزنِ؛ فذلك لَذَّةٌ جَمالِيَّةٌ غِنائِيةً؛ فإنْ تَخَلَّفَ عنده هذا الْعُنْصُرُ: فَعِنَده لَذَّةُ جمالِ البكاءِ الرومانسي الشرقيِّ.. وفي مَقْطُوعةِ (عبدالصبور): نجدُ الانعتاقَ من ضِيِقِ الشِّعاراتِ الْمَارِكِسيَّةِ؛ وهو هنا يُشْبِعُ فَتْحَةَ الموت والوقْتَ؛ فيرسِمُها هكذا: (الْمَوْتا) و(والْوَقْتا)؛ فهذا نَمُوّجٌ ساذَجٌ جِدّْاً مِن لذائذِ الْوِجْدانِ الرومانسيِّ الشَّرقيِّ تَعَمَّدْت البدْأَ به؛ لأنطلِق تدريجِيّْاً إلى الأجمل فالأجملِ، وأتعجَّلُ بتقديمِ رَأْيِيِيْ: أنَّ الألَقَ الرومانسيَّ الشَّرْقِيَّ مَشْروطٌ بالنَّصِّ الْغِنائي الرَّاقي عَرَبيّْاً تُراثِيّْاً، أوْ حَداثِيّْاً، أو خَوَاجِيّْاً مَنْقُوْلاً ببيانٍ عربيٍّ ذي رومانسيةٍ شرقِيَّةٍ يُؤَدِّيها إمامٌ في لغته الأمِّ العربيةِ، ولُغَتِهِ الثانيةِ الخَواجيَّةِ مِن أمثال الزَّياتِ ورامي ودُرِيني خشبَةْ والصاويْ شِعْلان؛ فإلى لقاء قريب إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.