عبدالعزيز السماري
تختزل مقولة الحاكمية لله تاريخ الإسلام السياسي منذ معركة صفين بين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وكان سبب ظهور هذه النظرية السياسية هو أن فريقاً من جيش علي رأي في رفع المصاحف من قبل جيش معاوية دعوة للاحتكام إلى كتاب الله، بينما رأي علي بن أبي طالب أن الأمر لا يعدو كونه خدعة، الهدف منها كسب الوقت والالتفاف على نتائج المعركة التي كانت في طريقها للحسم على يدي جيش علي.
خيّر الرافعون لكتاب الله عليّاً بين النزول على رأيهم أو الحرب، مدعين أن رفض الاحتكام لكتاب الله كفر، فما كان من علي بن أبي طالب إلا أن رد عليهم: هذا كتاب الله بين دفتي المصحف صامت لا ينطق ولكن يتكلم به الرجال، وكأنه بمقولته تلك يضع إجابة سابقة لعصور من الصراع والقتل والتفجير تحت شعار الحاكمية.
تعد الحاكمية أبرز الشعارات الدينية السياسية في تاريخ المسلمين واستخدمتها مختلف المذاهب والتيارات الإسلامية في تأصيل موقفها من الحكم والحاكم ومؤسسات الدولة كافة، حيث رفضت تلك الجماعات الاشتغال بالعمل السياسي، فيما يُعرف بالنظام الديموقراطي كونه يشرع قوانين وضعها الإنسان، واختارت القتال والتفجير عوضاً عن ذلك، كما يحدث الآن في ليبيا وتونس.
لم يكن رفع هذا الشعار الإلهي حكراً على فرق الخوارج قديماً، أو السنة حديثاً، فقد قدمت الاثني العشرية الشيعية فهمها المقدس لهذا الشعار من خلال ما يُطلق عليه بولاية الفقيه، وهو مصطلح سياسي ظهر حديثاً في الفقه الشيعي الاثني عشري.. حيث يعتبرها فقهاء ولاية وحاكمية الفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام الحجة، حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام الغائب في قيادة الأمة وإقامة حكم اللّه على الأرض.
ارتكبت باسم هذا الشعار جرائم وكوارث في تاريخ المسلمين، وكان ذريعة للقتل وللسيطرة على كرسي الحكم واستباحة الحقوق، وكانت المفارقة أن القرامطة المحسوبين على غلاة الشيعة رفعوا شعار الحكم بما أنزل الله، بعد أن استباحوا المسجد الحرام وقتلوا المصلين فيه، ونقلوا الحجر الأسود إلى عاصمتهم في شرق الجزيرة العربية.
يذكر أبو طاهر القرمطي الأسباب التي دعته إلى الاعتداء على قوافل الحجيج، في رسالة للخليفة العباسي، فيقول: أي جيش صدمك، فاقتدرت عليه، أم أي عدو ساقك فابتدرت إليه؟ .كما تضمنت الرسالة تبريرات أبي طاهر لأعماله الشنيعة في مكة.. يقول أبو طاهر في رسالته للخليفة المقتدر: «فأما ما ذكرت من قتل الحجيج وإضراب الأمصار، وإحراق المساجد فوالله ما فعلت تلك إلا بعد وضوح الحجة كإيضاح الشمس، وادعاء طوائف منهم أنهم أبرار، ومعايشتي فيهم أخلاق الفجار، فحكمت عليهم بحكم الله {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
يفهم البعض شعار الحاكمية في التاريخ الإسلامي أنه لا يعني في حقيقة الأمر الاحتكام إلى الله عز وجل، وذلك لأنه لا يوجد إنسان مؤهل للحكم باسم الله، بقدر ما يعني الاحتكام إلى من يعتقد أنه صاحب الحق الحصري في تفسير كتاب الله؛ مما يمنحه الحق تلقائياً في تمثيل الإرادة الإلهية على الأرض، وفرض سلطته على الناس قسراً، ولهذا السبب كان شعار الحاكمية هو شعار الساسة الفاشلين، وهو التبرير المقدس لارتكاب جرائم يشيب لها الولدان في تاريخ المسلمين.
قد يصعب في هذه العجالة سرد التاريخ الدموي الذي تم تدوينه في صفحاته باسم الحكم بما أنزل الله، ولعل ما يحدث من تفجيرات وقتل في الشرق العربي يفضح حقيقة الفشل السياسي الذريع في العقل الإسلامي، فجثث الضحايا تتناثر أشلاءً في المساجد، والناس يموتون جوعاً في مضايا، ويحصل ذلك باسم الحكم بما أنزل الله وباسم ولاية الفقيه نيابة عن المهدي الغائب المتحدث الرسمي باسم الله عز وجل في الأرض حسب اعتقادهم.
في نهاية هذه المقدمة عن كوارث استغلال شعار الحكم بما أنزل الله في قتل الآخر وتشريده واستباحة دمائه وحلاله، أستعيد تلك المقولة الخالدة للإمام علي بن أبي طالب الغائبة للرد على مختلف رافعي شعار الحاكمية من شيعة أو سنة أو غيرهم «هذا كتاب الله بين دفتي المصحف صامت لا ينطق، ولكن يتكلم به الرجال»، فهل أنتم منتهون أيها الساسة الفاشلون من تبرير جرائم القتل والسرق باسم الله عز وجل.