عبدالعزيز السماري
لازال مفهوم الوطن في المجتمع السعودي يكتنفه بعض الغموض، ولازال مشوهاً في العقل الجمعي للمواطنين، ويحتاج إلى إصلاح معرفي من أجل إدراك معنى الوطن في حياة الإنسان، وقد لا نحتاج إلى جهد ذهني من أجل فهم أبعاد استقرار الوطن، فالتجارب المجاورة تغني عن ألف كتاب عن أهمية الوطن في حياة الإنسان، ولكن نحن في حاجة لفهم معاني ومقاصد وأهداف التحول إلى الوطنية.
من الآثار السلبية للخطاب الإسلامي الذي جاءت بها السياسة لمواجهة المد القومي العربي، أن رسخ في عقول العامة فكرة الأمة، ولازال الخطاب الإسلامي بمختلف اتجاهاته يتحدث من خلال منطق الأمة الواحدة، وزاد من حالة الغموض عندما تبنى الخطاب الإسلامي السياسي مرجعية الأمة، ونجح في تحقيق هدفه عندما أصبح المجتمع السعودي مزدحما بالمنظرين والدعاة والوعاظ.
لعب النفط وعوائده المجزية في الاستتثمار في الخطاب الأممي القديم، وفي تغييب مفهوم الوطن، وكانت المخصصات المجزية، و التي تُمنح لبعض الخاصة والدعاة والمنظرين والمبشرين بالفكرة الأممية عاملاً في فشل أغلب خطط التنمية، برغم من المحاولات القليلة من بعض التكنوقراط في المجتمع في تلك المرحلة، وقد واجهوا حملات شرسة، وصلت إلى درجة إتهامهم بالعلمانية والليبرالية واليسارية وغيرها من التهم المعلبة.
سكرة اقتصاد النفط في تلك الفترة الماضية، أعادت المجتمع القديم الذي يقسم المجتمع إلى خاصة وعامة، ولا يجعل من العمل والإنتاج اللبنة الأساسية في الاقتصاد الوطني، لكن الانخفاض القوي لأسعار النفط أيقظ العقول أولاً لإدراك أهمية الوطن في حياة الشعوب، وثانياً للعمل من أجل إعادة بناء الاقتصاد الوطني.
لفت نظري في إعلان الميزانية الكشف عن الإيرادات غير النفطية، والتي وصلت إلى 29 %، ويأتي أغلبها من النشاط الاقتصادي في المجتمع، وهو ما يدشن عصر الاقتصاد الوطني أو التحول الوطني، ولا زال الرقم متواضعاً في ظل الاعتماد على بيع مواد الخام في السوق العالمية.
في طريق الاعتماد شبه الكلي على المجتمع لزيادة الدخل الوطني، سيترسخ مفهوم الوطنية، قد يأخذ أبعاداً جديدة يتغير من خلالها الخطاب الأممي إلى الوطني، وسيحتاج التحول إلى مرجعية الوطن إلى إصلاحات حقيقية لا تنتظر مرحلة إثارة الأسئلة، على أن تكون المشاركة في بناء الاقتصاد الوطني من الجميع وبدون استثناء.
الخطوة الأهم أن الدولة يجب أن تستغل ثرواتها الحالية في بناء اقتصادي منتج، ويغني البلاد عن الاعتماد على بيع الخام، وأن لا ننتظر قدوم مرحلة أسوأ من المرحلة الحالية، فالوطن القوي باقتصاد أبنائه هو الأكثر استقراراً واستقلالاً، والوطن الضعيف الذي يعتمد على المساعدات هو الأقل مناعة أمام رياح التغيير.
الوطنية مفهوم حديث، ومر في منعطفات تاريخية في العالم، كان أبرزها الشوفينية وأدلجة الوطن لخدمة إما سلطة الجيش أو القوى الخاصة في المجتمع، ودائما ما ينهار الوطن إذا تجاوزت الوطنية معانيها الحديثة، والتي من أهمها المشاركة والشفافية والحقوق والواجبات.
الوطنية مسار لا يمكن ان يتحقق بدون تدشين مرحلة النقد الذاتي البناء، والذي يتجاوز منطق الشاعر دريد بن الصمة في انتمائه الأعمى لقبيلته أو وطنه في ذلك الزمن، والذي لخصه في شطره الشهير، وما أنا إلا من غزية إن غوت.، غويت وإن ترشد غزية أرشد..
والذي لا يختلف كثيراً عن منطق الجندي الفرنسي الأسطوري نيكولا شوفان، الشديد الغيرة على فرنسا والمتفاني في القتال في جيش الجمهورية نابليون في حروبه دون التفات أو شك بحصافته، أو مساءلة لجدارة قضيته، فقُصد بها الإشارة إلى التفاني الأعمى..
لذلك لا يجب أن يفهم من نقد الذات أو تقديم رؤية نقدية مسالمة، ولكن مخالفة للرأي السائد في الوطن أنها خيانة للوطن، وتستحق العقاب، وبمعنى آخر يجب أن يكون مرجعية الوطن بمثابة المصلحة المشتركة والكبرى بين الجميع، والتي هدفها الأسمى ضمان الحقوق الأساسية، و توفير الأمن، وتقديم وسائل الرفاه المعيشي للمواطنين،، والله المستعان