عبدالعزيز السماري
يتفق علماء الاجتماع على أن «الشيء الوحيد الذي لا يتغير هو التغير نفسه»؛ والسبب أن التغيير سُنة كونية، ويحدث إما بفعل إرادي أو غير إرادي، وقد تحدث عبر تخطيط مسبق أو بصورة عفوية، وقد تحكمها الأحوال والمتغيرات الطبيعية من جانب آخر، وقد يكون التغيير سلبياً أو إيجابياً..
وبمعنى آخر، التغيير سمة متلازمة للإنسان والطبيعة، وتظهر بوضوح في تعاقب الأجيال؛ فالأجيال الحديثة تختلف في التفاصيل عن الأجيال السابقة، وفلسفة الحياة لم تعد كما كانت قبل خمسة عقود؛ فالشباب أصبحوا في الوقت الراهن كائنات كونية، ولديهم القدرة على الاتصال بمختلف المجتمعات بدون عناء..
وجه الخطورة عندما تعتقد السلطة أن حركة التغيير مؤامرة، ثم تعمل على إيقافه عند وعي سياسي محدد، أو حين تعتقد أنه بمقدورها أن تحدد سقفاً معيناً للوعي، عندها تبدأ مرحلة لها أكثر من فصل ومسار؛ فقد تنجح السلطة في فرض العراقيل ضد التغيير في البدء، لكن مع ازدياد موجات التغيير تنهار المقاومة، وينفجر الحال العام، كما هو الحال في سوريا وليبيا.
عندما يتحرك التغيير حسب سنن الطبيعة يتحدد مسار واتجاه التغيير، وتبدأ مراحل الإعداد لساعة الصفر في المستقبل، تماماً مثلما قبل الوصول إلى درجة غليان الماء؛ فالتغيير في جزيئيات الماء يبدأ مبكراً، لكن الوصول إلى درجة محددة لبدء الغليان يحتاج لمزيد من الشحن لبقية الجزيئيات.
لذلك تعتبر الخطوة الأهم في هذا المسار الطبيعي هو فن إدارة التغيير، ليس عبر أدوات التعسف والتسلط، ولكن بأساليب متحضرة، هدفها تنظيم مسار التغيير واحتواؤه، ثم تحويله إلى مسارات تخدم الصالح العام والوطن في نهاية الأمر..
يصف ابن خلدون عملية التغيير في زمنه بأنها شديدة الخفاء، ولا تقع إلا بعد أحقاب متطاولة من الزمن، ولا يكاد يفطن لها إلا الآحاد من أهل الخليقة. ولو عاش فيلسوف الاجتماع العربي في هذا الزمن لتغيرت آراؤه حول ديناميكية التغيير..
فالتغيير في هذا الزمن واضح كوضوح الشمس، ولا يحتاج إلى عقول آحاد تدرك خفاياه، أو إلى مخبرين لرصد تحركاته الخفية، وقد أصبحت دورة التغيير أقصر زمنياً، وأكثر شمولية، ويساعدها في ذلك تسارع معدلات التغيير في المعرفة والعلم والتقنية، ووصول زمن تبادل الأفكار إلى وقت قياسي.
التغيير ليس بالضرورة أن يكون إيجابياً؛ فالنتيجة السلبية خيار آخر في المسار الطبيعي، وتتحدد ملامحه من ثقافة المجتمع، فإذا كان المجتمع متشبعاً بالتعاليم المتطرفة والمتشددة يتحرك التغيير إلى خدمة هذه الأهداف، وإذا كانت خلفية الثقافة السائدة من سماتها التسامح والإنتاجية والوعي المدني بالمصالح العامة يحدث التغيير في اتجاهها..
في الزمن الراهن يتحكم العقل الديني الطائفي في مفاصل التغيير في أغلب المجتمعات العربية؛ فذهنية المواطن متشبعة بالتطرف الطائفي، ويفرز عقله كميات عالية من هرمونات الإقصاء والكراهية، وإن ظهر ليبرالياً في سلوكه الاجتماعي.
من أهم أمثلة نتائج التغيير السلبي ما يحدث في سوريا والعراق؛ فالنزاع الطائفي وصل إلى درجة غير مسبوقة في تاريخ المسلمين. وحدث ذلك؛ لأن السلطات السابقة كانت تدير التغيير من خلال العنف والتسلط والاستبداد فقط.
تسيطر على كثير من العقول في المجتمعات العربية فكرة التطرف الديني والعودة إلى مرجعية الأمة، ونبذ فكرة الوطن؛ ويعود السبب إلى أن التعليم في المدارس يقوم على منهج التاريخ الإسلامي الذي يقوم على قدسية دولة الخلافة وإدانة مفاهيم الدولة الحديثة دينياً..
يفسر ذلك التدافع الكبير بين الشباب للذهاب إلى الجهاد في مراحل سابقة، ثم تطورها إلى حراك سياسي من أجل إقامة دولة الخلافة في كل مكان. ومن هذا المنطلق تظهر أهمية إدارة التغيير، الذي يجب أن يحدث من خلال وعي تام بالمرحلة..
وأن تتحلى إدارة التغيير بشفافية عالية وعدم تناقض بين الخطاب والتطبيق، وأن لا تختفي خلف خطاباتها المصالح الشخصية الكريهة، ويظل الصالح العام هو الهدف الأسمى..
وأعني بذلك أن تقود إدارة التغيير تنمية حقيقية، من أهم بنودها العدالة بين فئات المجتمع، وتقديم فلسفة العمل والإنتاج؛ لتكون نواة للدولة المدنية، بديلاً عن الدولة الدينية المتعصبة للمذهب الواحد والفئة، وفكرة الغنائم والمكتسبات الزمنية..
وسيتطلب ذلك وعياً سياسياً عميقاً من قِبل السلطات من أجل إقناع المواطن بأنهم على الطريق الصحيح للتغيير الإيجابي.