أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أحال الإمامُ ابنُ جريرٍ رحمهُ الله تعالى إلى صفحات من الْمُجَلَّدِ السابع مِن تفسيره عن الّْنَفِيْ نفياً يقيناً.. إلا أنه حصل في تحْشِيَةِ الْمُحَقِّقِ وَهْمٌ بالإحالة إلى 7/ 447 ـ 453، ولا علاقة لهذه الصفحاتِ بموضوعنا؛ وإنما المرادُ 7/ 653- 657))..
قال رحمه الله تعالى: ((وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَأَلَ عِيسَى [عليه السلام] مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْبَيْت أَنْ يُلْقَى عَلَى بَعْضهمْ شَبَهُهُ؛ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ منهم رَجُلٌ؛ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ؛ فَقُتِلَ ذَلِكَ الرَّجُل، وَرُفِعَ عِيسَى [عليه السلام].. حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ قَالَ: ثنا يَزِيد قَالَ: ثنا سَعِيد: عَنْ قَتَادَة.. قال: قَوْله: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيح عِيسَى اِبْن مَرْيَم رَسُولَ اللَّه وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ *. إِلَى قَوْله: {وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}: أُولَئِكَ أَعْدَاء اللَّهِ الْيَهُود ابتَهَجُوا بِقَتْلِ عِيسَى بْنِ مَرْيَم رَسُولِ اللَّهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ.. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيّ اللَّهِ عِيسَى بْن مَرْيَم [عليهما السلام] قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيّكُمْ يُقْذَف عَلَيْهِ شَبَهِي فَإِنَّهُ مَقْتُول.. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابه: أَنَا يَا نَبِيّ اللَّهِ؛ فَقُتِلَ ذَلِكَ الرَّجُل، وَمَنَعَ اللَّهُ نَبِيّه، وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ.. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر: عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} قَالَ: أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْحَوَارِيّْيِيْنَ فَقُتِلَ، وَكَانَ عِيسَى بْن مَرْيَم عَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ فَقَالَ: (أَيّكُمْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهِي ولَهُ الْجَنَّة)؛ فَقَالَ رَجُل: عَلَيَّ.. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن قَالَ: ثنا أَحْمَد بْن الْمُفَضَّل قَالَ: ثنا أَسْبَاط: عَنْ السُّدِّيّ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيل حَصَرُوا عِيسَى وَتِسْعَة عَشَر رَجُلًا مِنْ الْحَوَارِيّْيِيْنَ فِي بَيْت؛ فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَأْخُذ صُورَتِي فَيُقْتَل وَلَهُ الْجَنَّة)؟؛ فَأَخَذَهَا رَجُل مِنْهُمْ، وَصُعِدَ بِعِيسَى إِلَى السَّمَاء؛ فَلَمَّا خَرَجَ الْحَوَارِيُّونَ أَبْصَرُوهُمْ تِسْعَة عَشَر، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ صُعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاء؛ فَجَعَلُوا يَعُدُّونَ الْقَوْم؛ فَيَجِدُونَهُمْ يَنْقُصُونَ رَجُلًا مِنْ الْعِدَّة، وَيَرَوْنَ صُورَةَ عِيسَى فِيهِمْ، فَشَكُّوا فِيهِ؛ وَعَلَى ذَلِكَ قَتَلُوا الرَّجُل وَهُمْيَرَوْنَ أَنَّهُ عِيسَى وَصَلَبُوهُ، فَذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}.. إِلَى قَوْله: {وَكَانَ اللَّه عَزِيزًا حَكِيمًا}.. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَة قَالَ: ثنا شِبْل: عَنْ الْقَاسِم بْن أَبِي بَزَّة: أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَم قَالَ: (أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَل مَكَانِي)؟؛ فَقَالَ رَجُل مِنْ أَصْحَابه: أَنَا يَا رَسُول اللَّه؛ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهه، فَقَتَلُوهُ، فَذَلِكَ قَوْله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}.. حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد قَالَ: ثنا سَلَمَة: عَنْ اِبْن إِسْحَاق قَالَ: كَانَ اِسْم مَلِك بَنِي إِسْرَائِيل الَّذِي بَعَثَ إِلَى عِيسَى لِيَقْتُلهُ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَال لَهُ:( دَاوُد)؛ فَلَمَّا أَجْمَعُوا لِذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يُفْظَعْ عَبْد مِنْ عِبَاد اللَّهِ بِالْمَوْتِ فِيمَا ذُكِرَ لِي فَظَعه، وَلَمْ يَجْزَع مِنْهُ جَزَعه، وَلَمْ يَدْعُ اللَّهِ فِي صَرْفه عَنْهُ دُعَاءَهُ ; حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُول -فِيمَا يَزْعُمُونَ -: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْت صَارِفًا هَذِهِ الْكَأْس عَنْ أَحَد مِنْ خَلْقك فَاصْرِفْهَا عَنِّي.. وَحَتَّى إِنَّ جِلْده مِنْ كَرْب ذَلِكَ لَيَتَفَصَّد دَمًا، فَدَخَلَ الْمَدْخَل الَّذِي أَجْمَعُوا أَنْ يَدْخُلوا عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِيَقْتُلُوهُ هُوَ وَأَصْحَابَه، وَهُمْ ثَلَاثَة عَشَر بِعِيسَى؛ فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ مِنْ الْحَوَارِيّْيِيْنَ وَكَانُوا اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا: فُطْرُس، وَيَعْقُوب بْن زَبْدِي، وَيُحَنَّس أَخُو يَعْقُوب، وَأَنْدَرَاييس، وَفِيلِبُّس، وَأَبْرَثَلْمَا، وَمَتَّى، وَتُومَاس، وَيَعْقُوب بْن حَلْقيا، وَتُدَّاوُسيس، وفتاتيا، وَيُودُس زَكَرِيَّا يُوطَا.. قَالَ اِبْن حُمَيْد: قَالَ سَلَمَة: قَالَ اِبْن إِسْحَاق وَكَانَ فِيهِمْ -فِيمَا ذُكِرَ لِي- رَجُل اِسْمه سَرْجِس؛ فَكَانُوا ثَلَاثَة عَشَر رَجُلًا سِوَى عِيسَى جَحَدَتْهُ النَّصَارَى؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي شُبِّهَ لِلْيَهُودِ مَكَان عِيسَى.. قَالَ: ولَا أَدْرِي أهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرأَمْ كَان ثَالثَ عَشَر؛ فَجَحَدُوهُ حِين أَقَرُّوا لِلْيَهُودِ بِصَلْبِ عِيسَى، وَكَفَُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مِنْ الْخَبَر عَنْهُ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَة عَشَر فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَدْخَل حِين دَخَلُوا وَهُمْ بِعِيسَى أَرْبَعَة عَشَر، وَإِنْ كَانَوا اِثْنَيْ عَشَر فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَدْخَل حِين دَخَلُوا وَهُمْ بِعِيسَى ثَلَاثَة عَشَر.. حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد قَالَ: ثنا سَلَمَة: عَنْ اِبْن إِسْحَاق قَالَ: ثني رَجُل كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ: أَنَّ عِيسَى حِين جَاءَهُ مِنْ اللَّهِ {إِنِّي رَافِعك إِلَيَّ}: قَالَ: ( يَا مَعْشَر الْحَوَارِيّْيِيْنَ.. (أَيّكُمْ يُحِبّ أَنْ يَكُون رَفِيقِي فِي الْجَنَّة حَتَّى يُشَبَّه لِلْقَوْمِ فِي صُورَتِي؛ فَيَقْتُلُوهُ مَكَانِي) ؟؛ فَقَالَ سَرْجِس: أَنَا يَا رُوحَ اللَّهِ.. قَالَ: فَاجْلِسْ فِي مَجْلِسِي؛ فَجَلَسَ فِيهِ، وَرُفِعَ عِيسَى صَلَوَات اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ وصَلَبُوهُ؛ فَكَانَ هُوَ الَّذِي صَلَبُوهُ وَشُبِّهَ لَهُمْ بِهِ، وَكَانَتْ عِدَّتهمْ حِين دَخَلُوا مَعَ عِيسَى مَعْلُومَة.. قَدْ رَأَوْهُمْ فَأَحْصَوْا عِدَّتهمْ؛ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُ وَجَدُوا عِيسَى -فِيمَا يُرَوْنَ- وَأَصْحَابه، وَفَقَدُوا رَجُلًا مِنْ الْعِدَّة؛ فَهُوَ الَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ عِيسَى؛ حَتَّى جَعَلُوا لِيُودُسَ زَكَرِيَّا يُوطَا ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَيُعَرِّفهُمْ إِيَّاهُ؛ فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنِّي سَأُقَبِّلُهُ؛ وَهُوَ الَّذِي أُقَبِّل؛ فَخُذُوهُ؛ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ وَقَدْ رُفِعَ عِيسَى: رَأَى سَرْجِس فِي صُورَة عِيسَى؛ فَلَمْ يَشُكّ أَنَّهُ هُوَ عِيسَى؛ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ.. ثُمَّ إِنَّ يُودُس زَكَرِيَّا يُوطَا نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ؛ فَاخْتَنَقَ بِحَبْلٍ حَتَّى قَتَلَ نَفْسه، وَهُوَ مَلْعُون فِي النَّصَارَى، وَقَدْ كَانَ أَحَد الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَصْحَابه.. وَبَعْضُ النَّصَارَى يَزْعُم أَنَّ يُودُسَ زَكَرِيَّا يُوطَا هُوَ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ فَصَلَبُوهُ؛ وَهُوَ يَقُول: إِنِّي لَسْت بِصَاحِبِكُمْ، أَنَا الَّذِي دَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ.. وَاَللَّه أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ)).
قال أبو عبدالرحمن: ليس مِن الْمُهِمِّ مَعْرِفةُ اسم من قَتَلَةُ اليهودُ وهو على شَبَه عيسى عليه السلام، وليس مِن الْمُهِمِّ معرفةُ أسماءِ وعددِ مَن دخلوا على عيسى بعد قَتلِ الَّشبيه؛ وإنما الْمُهِمُّ الْعِلْمُ بما جاء في القرآن الكريم الْمُصَدَّقِ الْمُصَحِّحِ في آنٍ واحدٍ ما جاء في كُتُبِ أهلِ الكتابِ مِن أثارَةٍ باقيةٍ بأيديهم، ومِن إضافةٍ أو إسقاطٍ، ومِن تحريفٍ لْلكَلِمِ من بعد مواضِعه مع بقاء النَّصِّ كما هو.. وما لمْ يَنْفِهِ دينُنا مِن أسماءٍ وأعدادٍ: فإنَّ حُكْمُهُ التَّوقُّفُ بلا تصديقٍ ولا تكذيبٍ، وإنما هو على الاحتمالِ، وأنْ نقولَ: آمَنّا بما أُنْزِل إلينا وما أنزل إليكم.. إلى آخرِ النَّصِّ الشرعي في حديث: (لا تُصدِّقوهم ولا تُكذِّبوهم.. إلخ )؛ وقوله: ((أُنْزِلَ إليكم)) معناه: ما أنزله الله إليكم حقيقةً مُبَرءاً من الإضافة والإسقاطِ وتحريفِ الْكَلِمِ مِن بعد مواضِعِه.
قال أبو عبدالرحمن: وخلاصَةُ القول: أنَّ الله حَمَّلَ اليهودَ وِزْرَ إرادة قَتْلِ المسيحَ بْنَ مرْيَمَ عليهما صلواتُ الله وسلامُه وبركاته؛ لأنهم لم يَدَّخِرُوا وُسْعاً في محاولتِهم قَتْلَهْ، كما تَحمَّلوا تِلْقائياً وِزْرَ افترائهم الشنيع على مريم عليها صَلواتُ الله وسلامه وبركاته، وقد أسهبتُ عن هذه المسألةِ في بحوثي عن (الكيدِ الصُّهيوني)، وهي تنيف على ألْفَيْن ومِئَةِ صفحةٍ.. أي ألَفِ وخمسين وَرقَةٍ، وقد تزيد على ذلك وقد نُشِرَ كثيرٌ منها في هذه الجريدة منذُ سَبْعَةِ أعوامٍ تقريباً.. والْمُهِمُّ أيضاً أنَّ الله سبحانه وتعالى نَفَى نفياً يقيناً قُدْرَتَهم على قَتْلِ عيسى، وأنهم ما قتلوه نفياً يقيناً.
قال أبو عبدالرحمن: معاذَ الله أنْ يكون (نفياً يقيناً) اِدِّعاءً مِنِّي؛ لأنَّ (ما) في قوله تعالى: (وما قتلوه) نافيةٌ في لغةِ العربِ التي نزل بها القرآن الكريم، وكلُّ كتاب أنْزله على رسولٍ من الأنبياء والرُّسُلِ عليهم صلواته وبركاتُه وسلامُه: فإنه نازلٌ بلُغَةِ قومِه؛ فكان من الضروريِّ الإحالةُ إلى ( ما ) بمفهومِها في لغة العرب؛ فكان الْمَعْنى: وما قتلوه نفياً يقيناً، وإلى لقاء قريب إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.