أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أسلفتُ لكم الْـحُكْمَ فيما نقله الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى عن أهل الكتاب؛ ومِنْهُ ما هو في التوراة والأناجيل التي بأيديهم، ومِنْه ما اخْتَلَقَهُ كَذَبَةُ أهلِ الكتابِ بصياغةٍ تكون تفسيراً لِـما وَرَدَ في القرآن الكريم عن هذه الْمَسْأَلةِ؛
فمِن ذلك ما نقله في تفسيره (3 /253 - 355) .. قال: ((قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة: عَنْ اِبْن عَبَّاس [رضي الله عنهما] عن هذه الآية:يَعْنِي أَنَّهُمْ رَمَوْهَا بِالزِّنَى؛وَكَذَلِكَ قَالَ السُّدِّيُّ، وَجُوَيْبِرُ، وَمُحَمَّدُ بْن إِسْحَاق، وَغَيْرُ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْآيَة: أَنَّهُمْ رَمَوْهَا وَابْنهَا بِالْعَظَائِمِ؛ فَجَعَلُوهَا زَانِيَة؛ وَقَدْ حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا مِنْ ذَلِكَ.. زَادَ بَعْضهمْ: (وَهِيَ حَائِض)؛ فَعَلَيْهِمْ لَعَائِن اللَّه الْـمُتَتَابِعَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.. {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ} [سورة النساء/ 157].. أَيْ هَذَا الَّذِي يَدَّعِي لِنَفْسِهِ هَذَا الْـمَنْصِب قَتَلْنَاهُ؛ وَهَذَا مِنْهُمْ مِنْ بَاب التَّهَكُّم وَالِاسْتِهْزَاء كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [سورة الحجر/ 6].. وَكَانَ مِنْ خَبَر الْيَهُود عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّه وَسَخَطُه وَغَضَبُه وَعِقَابُه: أَنَّهُ لَـمَّا بَعَثَ اللَّه عِيسَى اِبْن مَرْيَم [عليهما صلواتُ الله وسلامُه وبركاتُه] بِالْبَيِّنَاتِ وَالْـهُدَى: حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ النُّـبُوَّة وَالْـمُعْجِزَات الْبَاهِرَات الَّتِي كَانَ يُبْرِئُ بِهَا الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِيْ الْمَوْتَى بِإِذْنِ الـلَّه، وَيُصَوِّرُ مِنْ الطِّين طَائِرًا؛ ثُمَّ يَنْفُخ فِيهِ فَيَكُون طَائِرًا يُشَاهَدُ طَيَرَانُه بِإِذْنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.. إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْـمُعْجِزَات الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّـه بِهَا وَأَجْرَاهَا عَلَى يَدَيْهِ .. وَمَعَ هَذَا كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، وَسَعَوْا فِي أَذَاهُ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ؛ حَتَّى جَعَلَ نَبِيَّ الله عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يُسَاكِنهُمْ فِي بَلْدَة، بَلْ يُكْثِر السِّيَاحَة هُوَ وَأُمُّه عَلَيْهِمَا السَّلَام، ثُمَّ لَمْ يُقْنِعهُمْ ذَلِكَ حَتَّى سَعَوْا إِلَى مَلِك دِمَشْق فِي ذَلِكَ الزَّمَان؛ وَكَانَ رَجُلًا مُشْرِكًا مِنْ عَبَدَة الْكَوَاكِب، وَكَانَ يُقَال لِأَهْلِ مِلَّته: (الْيُونَان، وَأَنْهَوْا إِلَيْهِ أَنَّ فِي بَيْت الْـمَقْدِس رَجُلًا يَفْتِنُ النَّاس وَيُضِلُّهُمْ وَيُفْسِد عَلَىالْـمَلِك رَعَايَاهُ؛ فَغَضِبَ الْـمَلِك مِنْ هَذَا، وَكَتَبَ إِلَى نَائِبه بِالْقُدْسِ أَنْ يَـحْتَاط عَلَى هَذَا الْـمَذْكُور، وَأَنْ يَصْلِبَهُ وَيَضَعَ الشَّوْكَ عَلَى رَأْسه، وَيَكُفَّ أَذَاهُ عَنْ النَّاس؛ فَلَمَّا وَصَلَ إليه الْكِتَاب اِمْتَثَلَ مُتَوَلِّي بَيْت الْـمَقْدِس لذَلِكَ، وَذَهَبَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْيَهُود إِلَى الْمَنْزِل الَّذِي فِيهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ فِي جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابه، اِثْنَيْ عَشَر أَوْ ثَلَاثَة عَشَر، وَقِيلَ [سَبْعَة عَشَر] نَفَراً؛ وَكَانَ ذَلِكَ يَوْم الْـجُمُعَة بَعْد الْعَصْر لَيْلَة السَّبْت؛ فَحَصَرُوهُ هُنَالِكَ؛ فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا مَحَالَة مِنْ دُخُولهمْ عَلَيْهِ، أَوْ خُرُوجه إِلَيْهِمْ: قَالَ لِأَصْحَابِهِ: ((أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّة؟)) .. ثم سرد ابن جرير كلاماً طويلاً مقارِباً ما ذكرته في الحلقة الرابعة ثم قال: ((حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مَرْيَم جَلَسَتْ تَحْت ذَلِكَ الْـمَصْلُوب وَبَكَتْ، وَيُقَال: إِنَّهُ خَاطَبَهَا، وَاَللَّه أَعْلَم، وَهَذَا كُلّه مِنْ اِمْتِحَان اللَّه عِبَاده؛ لِـمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْـحِكْمَة الْبَالِغَة.. وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّه الْأَمْر وَجَلَّاهُ وَبَيَّنَه)).
قال أبو عبدالرحمن: هذه النقولُ مِمَّا بأيدي النصارَى مِن كتابهم بيقين، وحُكْمُها ما مَرَّ عن الإيمان بما أنْزل إلينا وإليهم بلا تصديق ولا تكذيب إلا ببرهانٍ قاطعٍ، ولا سيِّما ما أنزله الله على عبده ورسوله محمدٍّ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقاً أو نافياً أو مُصَحِّحاً بعض ما بأيديهم .. وهذه النصوص تُبيِّن ما مرَّ على العهد القديم مِن تبديل وتحريفٍ على رغْمِهم، ثم زادوا همُ الطين بَلَّةً إلى أنْ أصبحت التوراةُ في أكثرِ نصوصها غيرَ التوراةِ التي أمرهم الله تعالى بالاحْتكام إليها في القرآن الكريم كما في آياتٍ من سورة المائدة؛ ذلك أنها مُحِيْلَتُهمْ إلى اتِّباع النبي الأميِّ محمد صلى الله عليه وسلم.. ولقد أطلتُ في هذه الْـمَسْألة كثيراً في بحوثي عن (الكيد الصهيوني)، وأريد خَتْمَ هذه المسألةِ من أجل الانتقال إلى موضوع آخر نَسْبَحُ فيه قليلاً مع العقل الجمالي، وحسبي الآن التَّأْكِيْدُ على أنَّ تقديري (نفياً) ليستْ مِن كِيسي؛ وإنما هي تقديرٌ لِـمَعْنَى (النَّفي) بدلالةِ (ما) في الآية الكريمة، وإليكمْ برهاناً آخَرَ على مِثلِ هذا التقدير .. قال سبحانه وتعالى: {وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [سورة فاطر/ 37]؛ فهذا يُقَدَّر فيه النذير اِسْماً أوْ وصفاً حَسَبَ دلالة السياق .. قال أحمد بن يوسف السمين [- 756هـ] رحمه الله تعالى في (عمدةُ الحفَّاظِ) 4/ 184: « قولُه {وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} هو الرسولُ؛ (فعيلٌ بمعنى مُفْعِلْ)، وقيل: (هو الشَّيبُ) وقيل: (القرآنُ).. ويكون النذيرُ أيضاً بمعنى الإنذار؛ فيكون اسماً ووصفاً؛ ومنه قوله تعالى: {كَيْفَ نَذِيرِ} [سورة الملك/ 17] أي إنذاري.. وقوله: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ} [سورة يونس/ 101] جمعُ نذيرٍ نحوُ رغيفٍ ورُغُفٍ؛ والمرادُ به المصدرُ، وجُمِعَ لاختلاف أنواعه».
قال أبو عبدالرحمن: الذي يُحَدِّدُ معنى الصِّيغَةِ (الوزنِ) السياقُ؛ فالشيب نذير، والرسولُ صلى الله عليه وسلم نذير، والقرآن نذير؛ فالشيبُ نذير بدلالة قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [سورة الروم/ 54]؛ فالعودَة إلى حالِ الضَّعفِ الأولى استهلاكٌ للعمر؛ فالشيب في هذه الحال نذير بالرحيل إلى دار القرار، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة غافر/ 67]؛ فذكر ربنا سبحانه وتعالى حالاتِ الضَّعفِ الثلاثَ، ثم حالةَ الإحساسِ؛ وهي الطفولةُ؛ وهي أُوْلى حلات الضَّعْفِ؛ ثم حالَ القوَّةِ؛وهي الأَشُدُّ، ثم الشيخوخَةَ؛ وهي استهلاكُ الْعُمْرِ؛ وهذه نذيرُها الشيبُ .. وجاء البيان مِن الشرعِ الْـمُطهَّرِ أنَّ أعمارَ أُمَّةِ محمدٍّ صلى الله عليه وسلم بين الستين والسبعين وقلَّ مَن يَبْلُغُها .. وجاء بضرورة العقلِ من الحسِّ والشرع أنَّ حُجَّةَ رَفَعِ الْعُذْرِ شرعاً بلوغُ حُجَّتهِ وفَهْمُها، واستيعابُ براهينهِا على دَفْعِ الشُّبَه، وأنَّ الله لا يُعاجل بالإضلال والطَّبْعِ إلا بعد الانقطاعِ والاستسلامِ للشهواتِ والأهواء، والابتلاءِ بالعقوبة الدنيويَّة مع الإمهَال حتى تَحْصُلَ الإنابةُ؛ فيكون كشْفُها كما في قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة السجدة / 21]؛ فالشيب والرسول والقرآن كلُّها متضافراتٌ على معنى (النذير) بدلالة صيغة (مفعول) .. وأمَّا (النذيرُ) في سورة النجم فهي جماعة؛ فلا تكونُ (النذير) في سورة فاطر بمعنى (منذر)؛ فإذا كان الخطاب بالآية من سورة فاطر: أصبحَ التقدير بما هو منْذِرٌ بقرب الرحيل من رسول وكتاب وشيب؛ فهذا التقدير من دلالةِ (نذير) مِثْلُ تَقْدِير (نَفْياً) بلا ادِّعاءٍ أو افتراء، وإلى لقاء قريب إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.