أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (سورة النساء 157-158).
قال أبو عبدالرحمن: تعلمون أنَّ الإمامَ الجليلَ أبو [الضَّمُّ على الحكاية] جعفر بن جرير الطَّبريُّ [224-310هـ] رحمه الله تعالى: إمامٌ في التاريخ، وإمام في الحديث، وإمام في الفقه، وإمام في اللغة، وإمام في النحو على مذهب الكوفِييِيْنَ، وإمام في الأصول، وهو مُشارِكٌ في معارفَ كثيرةٍ من المعارِف البشَريَّةِ؛ فهو مُقْرِئٌ، وهو ذو إلمامٍ بالطِّبِّ؛ فهو قُدْوَةٌ للإمام ابن حزمٍ رحمه الله تعالى في هذه الْمَعارِفِ الكثيرة، كما كان نسخةً مِن الإمام الشافعيِّ في سَعَةِ معارِفِهِ، مع ما اسْتَجَدَّ له مِن معارِف عصرِه، وَأَرْبَى على شَيْخِهِ أبا سليمانَ داوودَ الأصفهانيَّ الظاهريَّ؛ فأبى جُمُوْدَهُ على ظواهرِ الألفاظِ، وَتَعْطِيلَه دلالةَ المعاني التي هي قطْعِيَّاتُ اللسانِ العربيِّ وعادَتُه، وانْفَصَلَ عن حلقةِ شيخه، وَرَدَّ عليه بكتابٍ سمَّاهُ (الردُّ على ذي الأسفارِ) لاحناً بالآية الكريمةِ عفا الله عنهما.. أجارَ اللهُ داوودَ مِن مَثَلِ السَّوْءِ؛ فما كان حامِلُ معاني القرآن الكريم حسبما أدَّاه إليه اجتهادُه، وما كان حامِلُ صحاحَ حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب اجتهادِه في التوثيق؛ وهو كثير التأليف.. ما كان لهذا الإمام أنْ يكونَ كالحمار يحمل أسفاراً.. عفا الله عنهما مَرَّةً ثانية، وما أَقْبَحَ السَّفاهَةَ مع الأئمة الرَّبَّانِييينَ الكبارِ والتَّطاوُلَ عليهم.. وكان الإمام ابنُ جرير بِكُتُبِهِ أَسْتاذاً للإمام ابن حزم في الأسلوبِ الجدلي الإلزاميِّ.. لا تكاد تَفْرِقُ بين أُسْلُوْبَيْهما.. رحمهم الله جميعاً ورضي عنهم.
قال أبو عبدالرحمن: على الرُّغْمِ مِن هذه السَّعَةِ في الإمامةِ لابن جَرير إلا أنَّه ظلَّ على ما كانتْ عليه أوهامُ جمهورِ المفسِّرين إلا أنَّه أَلْمَحَ بجملةٍ لو اكْتَفَى بها لأراحتْهُ مِن أوْهامِ جمهور الْمُفَسِّرين، وإليكم نَصَّ كلامِه.. قال رحمه الله تعالى: (( يعني جلَّ ثناؤُه: ما كان لهم بمَن قتلوه مِن علم؛ ولكنهم اتَّبعوا ظنَّهم؛ فقتَلوه ظنَّاً منهم أنه عيسى، وأنه الذي يريدون قتلَه، ولم يكنْ به.. وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا .. يقولُ: وما قتَلوا ظنَّهم الذي اتَّبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسَبونه عيسى.. يقيناً أنه عيسى ولا أنه غيرُه، ولكنهم كانوا منه على ظنِّ وشبهةٍ.. وهذا كقولِ القائلِ للرجلِ: (ما قتلتَ هذا الأمرَ علماً)، و(ما قتلتُه يقيناً).. إذا تكلَّم فيه بالظنِّ على غيرِ يقينِ علمٍ؛ فالهاءُ في قوله وَمَا قَتَلُوهُ عائدةٌ على الظنِّ.. بل هي عائدة إلى النَّفْيِ يقيناً ، وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ)).. ثم أسند هذا القولَ إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وفي إسناده عبدالله بن صالح، وإلى جُوَيْيِر، وإلى السُّدِّيِّ ولا خير فيه، وفي الإسنادِ إليه الكذَّابُ محمد بن حميدٍ الرازي.. وقال ابن جرير: ((وأما قولُه: بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ : فإنه يعني: بل رفَع اللهُ المسيحَ إليه.. يقولُ: لم يقتلُوه ولم يصلِبوه، ولكنَّ اللهَ رفَعه إليه؛ فطهَّره مِن الذين كفَروا)).. [تفسير ابن جرير (جامعُ البيانِ عن تأويلِ آيِ القرآن) 7/661-662/دار عالم الكُتب بالرياض /طبعتهم الأولى عام 1424هـ بتحقيق الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي].
قال أبو عبدالرحمن: هذه الْجُمْلَةُ الأخيرةُ هي الإلْماحُ الذي ذَكَرْتُهُ آنفاً؛ إذْ تَبَيَّنَ: أنَّ اليهودَ الكَفَرة لم يقتلوا عيسى عليه السلام، وأنَّ الله رفعه إليه، وطَهَّرَه منهم؛ فلمْ يَبْقَ معنىً ولا احتمالٌ لتفسير قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا غيرُ أنهم لَمْ يَقْتُلُوه نَفْياً يقيناً، وهم لعنهم الله محكوم عليهم بأنهم قتلوا عيسى، وعادَتُهم قَتْلُ الأنبياء، وعليهم وِزْرُ القاتِلِ؛ لأنهم لم يَدَّخِروا وُسْعاً في الوصولِ إليه، ومِثْلُ هذا الإلْماح قولُ ابن جرير في تفسيره (7 /660): (( فحكَوا ما كان عندَهم حقّاً، والأمرُ عندَ الله في الحقيقةِ بخلافِ ما حكَوا؛ فلم يستحقَّ الذين حكوا ذلك مِن حَوَارِييْيِهِ أنْ يكونوا كَذَبةً؛ إذْ حكَوا ما كان حقاً عندهم في الظاهر وإنْ كان الأمرُ عندَ الله في الحقيقة بخلافِ الذي حكَوا)).
قال أبو عبدالرحمن: قولُه تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ : لا يعني أنَّهم شاكُّون في قَتْلِهم عيسى قَبْلَ أنْ يأتيهم البيانُ الحقُّ الذي سأذكره بعد قليل؛ بل هم في أنفسِهم على يقينٍ بأنهم قتلوه؛ ولهذا تأكَّدتْ عقيدةُ الصَّلْبِ فيما أدْخَلَه اليهود على دين النصارى من افتراءٍ وبهتان؛ ولهذا أيضاً بَاؤُا بإثْمِ القاتِل.. ولو فُرِضَ أنهم شكُّوا قبل أنْ يتبيَّنَ لهم الحقُّ: هل قتلوه، أو لَمْ يَقْتُلُوه ؟: فلا عِبْرَة بشكهم في أنفسهم؛ لأنَّ شكُّهم باطِلٌ باليقينِ الحقِّ: أنَّهم لم يقتلُوه نفياً يقيناً كما هو الواقع، ولا يَدْرَأُ شكُّهم وزِرَ اجْتِرامِهم القَتْلِ؛ والبرهانُ على ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى أثْبَتَ مِن قولهم: (أنَّهم قتلوا عيسى)، وَنَفى (أنَّهم قتلوه مستيقنين؛ بل اتَّبَعُوا الظنَّ)؛ فكانت النتيجةُ: (أنَّهم قَتَلُوْهُ غيرَ مُسْتيْقنين أنهم قتلوه).. إلاَّ أنَ هذه النتيجة باطلة؛ لأنهم لم يقتلوه نفياً يقيناً.. والبيانُ الحق الذي أَعْنِيْهُ بَيَّنَهُ الإمامُ ابنُ جرير بَعْدَ أنْ ساق الأقوالَ بأسانيدها في تفسيره (7/658-660)؛ فقال: ((وأَوْلَى هذه الأقوالِ بالصوابِ أحدُ القولين اللَّذين ذكَرناهما عن وهبِ بن مُنَبِّه من أن شبَهَ عيسى أُلْقِي على جميع مَن كان في البيتِ مع عيسى [عليه السلام] حين أُحِيط به وبهم، من غيرِ مسألةِ عيسى إيَّاهم ذلك، ولكن ليُخْزِيَ اللهُ بذلك اليهودَ، ويُنْقِذَ به نبيَّه عليه السلامُ مِن مكروهِ ما أرادوا به من القتلِ، ويبتلىَ به مَن أراد ابتلاءَه من عبادِه، في قيلِه في عيسى، وصِدْقِ الخبرِ عن أمرِه، أو القولِ الذي رواه عبدالعزيزِ عنه.. وإنما قلنا ذلك أَوْلى القولين بالصواب؛ لأن الذين شهدوا عيسى من الحواريِّين لو كانوا في حالِ ما رُفع عيسى، وأُلْقِي شبهُه على مَن أُلقي عليه شبهُه: كانوا قد عايَنوا عيسى وهو يُرْفَعُ من بينهم، وأثبَتوا الذي أُلقي عليه شبهُه، وعاينوه متحوِّلاً في صورتِه بعدَ الذي كان به من صورةِ نفسِه بمحضرٍ منهم.. لم يَخْفَ ذلك من أمر عيسى، وأمْرِ من ألقي عليه شبهه عليهم، مع معاينتهم ذلك كلَّه، ولم يلتبسْ عليهم ولم يُشْكِلْ عليهم، وإنْ أَشْكَلَ على غيرِهم من أعدائهم من اليهود أنَّ المقتولَ والمصلوبَ كان غيرَ عيسى، وأن عيسى رُفِعَ من بينِهم حيّاً.. وكيف يجوز أنْ يكونَ كان.. [هذا مِن أساليب ابن جرير؛ والتقدير: أنْ يكون ذلك الأمرُ الْمَوْجُودُ مُشْكِلاً عليهم؛ فـ (كان) هنا تامَّة لا ناسخة] أَشكلَ ذلك عليهم، وقد سمِعوا من عيسى مقالتَه: (من يُلْقَى عليه شبهي، ويكون رفيقي في الجنة؟) إنْ.. [الأصحُّ عندي ما جاء في إحْدى النسخ: (إذْ)] كان قال لهم ذلك، وسمِعوا جوابَ مجيبِه منهم: (أنا)، وعاينوا تحوُّلَ المجيبِ في صورة عيسى بعَقِبِ جوابِه، ولكنَّ ذلك كان إن شاء الله على نحوِ ما وصَف وهبُ بنُ منبهٍ: إما أن يكونَ القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت الذي رُفع منه من حَوَارِييِيْهِ: حولَّهم الله جميعاً في صورة عيسى حين أراد اللهُ رفعَه؛ فلم يُثْبِتوا عيسى معرفةً بعينِه من غيرِه؛ لتشابه صُوَرِ جميعهم، فقتلتْ اليهودُ منهم مَن قتلت، وهم يَرونه بصورة عيسى، ويحسَبونه إيَّاه؛ لأنهم كانوا به عارفين قبل ذلك، وظنَّ الذين كانوا في البيتِ مع عيسى مثلَ الذي ظنَّت اليهودُ؛ لأنهم لم يُمَيِّزوا شخصَ عيسى من شخص غيره؛ لتشابه شخصِه وشخصِ غيره، ممن كان معه في البيت؛ فاتَّفق جميعُهم -أعني اليهود والنصارى من أجل ذلك-: على أنَّ المقتول كان عيسى، ولم يكنْ به، ولكنْ شُبِّه لهم كما قال الله جلَّ ثناؤُه:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ}، أو يكون الأمر في ذلك كان على نحو ما روى عبدُ الصمد بنُ مَعْقِلٍ، عن وهبِ بن منبهٍ: أنَّ القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت تفرَّقوا عنه قبل أنْ يدخُلَ عليه اليهود، وبقي عيسى، وأُلْقِي شبهُه على بعض أصحابِه الذين كانوا معه في البيت بعدما تفرَّقَ القومُ عنه، وبقي غيرُ الذي ألقي عليه شبهه، ورُفِعَ عيسى؛ فقُتِل الذي تحوَّل في صورة عيسى من أصحابه، وظنَّ أصحابُه واليهود أنَّ الذي قُتل وصُلب هو عيسى؛ لِمَا رأَوُا من شبهِه به، وخفاءِ أمر عيسى عليه؛ لأنَّ رفعَه وتحوُّلَ المقتول في صورتِه: كان بعد تفرُّق أصحابِه عنه، وقد كانوا سمعوا عيسى من الليل يَنْعَى نفْسَه، ويحزَنُ لِما قد ظنَّ أنه نازلٌ به من الموت؛ فحكَوا ما كان عندَهم حقاً، والأمر عند الله في الحقيقة بخلاف ما حكَوا؛ فلم يستحقَّ الذين حكوا ذلك من حَوَارِييِيْهِ أن يكونوا كَذَبةً؛ إذْ حكَوا ما كان حقاً عندَهم في الظاهر وإنْ كان الأمرُ عند الله في الحقيقة بخلاف الذي حكَوا)).
قال أبو عبدالرحمن: مصادِر ابن جرير رحمه الله تعالى مما قاله بعضُ أهلِ الكتابِ الْكَذَبةِ وليس أكْثَرُه في كُتُبِ أهلِ الكتابِ الموجودةِ بين أيديهم؛ فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى لِتحقيقِ ذلك، والله المُستعان.