أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: إنني على مَوْعِدٍ معكم إن شاء الله تعالى مع الحلقة الثالثة من بحث (وما قتلوه يقيناً)، ولكنني شُغِلْتُ ذِهْنِياً بتحقيقِ دلالةِ الكون؛ لأنَّ اللُّغَوِيِّيْن تَوَسَّعُوْا في مادة (كان) و(الكون)، وسيأتي لتحقيق ذلك إنْ شاء الله تعالى مُناسبةٌ قادمة؛ وإنما أكتفي الآن بالكلام عن صرف جمهورهم مادة (كان) عن
معناها الظاهر الذي هو حُدُوْثٌ في زَمنٍ مَضَى؛ وحُجَّتُهم أنَّ مِن مَعْمُولات (كان) ما هو صِفَةٌ لله سبحانه وتعالى مُلازِمةٌ كالسمع والبصر؛ فلا يَصِحُّ أَلْبَتَّةَ أنْ يكون اللهُ جل جلالُه غيرَ سميع أو بصير في لحظةٍ واحدة، ومِن ذلك قولُه سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [سورة النساء/ 131]؛ فالله هو الْـغَنِيُّ وحده، وكلُّ مَن سِواه فهم عبيده وَمُلْكِهِ، وكلُّ رزقٍ عند واحدٍ منهم فمنه وحده سبحانه وتعالى؛ لأنه الرزَّاقُ وَحْدَه، وإذا أراد شيئاً قال له: (كُنْ)؛ فيكون، وضرب الله الْـمَثل لعباده بما تَحْتَمِلُه عقولهم بـ(الْـمِخْيَطِ) وما يَنْقُصَه الْـمِخْيطُ من البحر، والله لا ينقص مِـمَّا عنده شيئاً مِنْ مِِخيْطٍ ولا مِن إبْرَةٍ، ولا مِـمَّا هو أدنى من ذلك؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يُعْجِزَهُ شيىءٌ في الأرض ولا في السماء، ولا (عَدَمَ) عنده؛ فإذا شاء شيئاً وقَدَّرَه أتَى إليه طائعاً .. ولقد تأثَّرتُ بالجمهور؛ فتابعتُهم في التأويلِ بأنَّ (كان) محمولة دائماً على الْأَبَدِيَّةِ من غير أوَّلية، وَدَيْمُوْمَةٍ مِن غير نهايةٍ .. إلا أنَّ كَثْرَةَ مُرورِ (كان) عَلَـيَّ في التِّلاوة اضْطَرَّني إلى كثْرَةِ التأمُّلِ؛ فأنعم الله عليَّ بِبَرْدِ الْـيَقينِ بأنَّ (كان) لا تكون أبداً إلاَّ لِحَدَثٍ وقع في الماضي، وفسادِ كلِّ قولٍ خِلافَ ذلك.. قال الْـكِسائِيُّ: ((والعرب تُدْخِل كان في الكلام لَغْواً فتقول: (مَرَّ على كان زيد) يريدون مَرَّ على زيدٍ .. قال الجوهريُّ: ((وقد تَقَعُ زائدةً للتَّوكيد كقولك: (زيدٌ كان مُنْطلِقٌ)؛ ومعناه: (زيد مُنْطلِق) .. وأما قولُ الفرزدق:
فكيف إذا مَررتُ بدارِ قومٍ
وجيرانٍ لنا كانوا كِرامِ
[بالكسْرِ.. كَسْرِ ميمِ كرامِ]؛ فزعم سِيبويْهِ: أنَّ كان هُنا زائدة [ الكتابُ 1/289] .. وقال أبوالعباس: (( إن تقديره وجيرانٍ كِرامٍ كانوا لنا)).. قال ابنُ سِيْدَهْ: (( وهذا أسوغُ؛ لأنَّ كانَ قد عَمِلَت ههنا في موضع الضَّمير، وفي موضع ( لنا )؛ فلا معنى لما ذهب إليه سيبويه من أنَّها زائدة هنا)).. [انظر تاج العروس 36/73-74] ط الكويت، وقال الزَّبِيدي أيضاً في تاج العروس 36 /77-78 عن بعض معاني (كان): (( وبمعنى الحال كقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسَِ} [سورة آل عمران/ 110].. ورُوى عن ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية قال: ((أي أنتم خيرُ أمة)).. قال: ويقال: ((معناه كنتم خير أمة في علم الله))؛ وعليه خرَّج بعضٌ قولَه تعالى: {وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [سورة النساء/ 96]؛ لأنَّ (كان) بمنزلة ما في الحال؛ والمعنى (والله غفورٌ رحيم).. إلا أنَّ كَونَ الماضي بمعنى الحال قليل، واحتجَّ صاحبُ هذا القول بقولهم: ((غَفَر الله لفُلان بمعنى: ليغفر الله))؛ فلمَّا كانَ في الحال دليلٌ على الاستقبال: وقعَ الماضي مُودِّياً عنها اسْتِخْفَافاً؛ لأن اختلافَ ألفاظِ الأفعالِ إنَّما وقع لاختِلاف الأوقات).
قال أبو عبدالرحمن: كلَّا؛ بل الْـمَعنى (اللهم اِغْفِرْ له) مثل: عافاه الله، ورحمه الله، وحفظه الله.. وكل ماضٍ في هذا البابِ دعاءٌ، وقد حَقَّقْتُ هذه الْـمَسْألة، وعلَّق عليها معالي الدكتور الخويطر رحمه الله تعالى تعليقاً جميلاً، وكلُّ هذا نُشِرَ بهذه الجريدة منذ سنوات، وَنَقَلَ الأستاذ محمد الحمدان مقالتي ومقالة الخويطر مُشِيْداً بهما في كُنَّاشتِه؛ وهذا بخلاف: (يَرْحَمُهُ الله) التي يلهج بها المعاصرون فِراراً مِن (رحمه الله)؛ وهذا تنطُّع، ولا يفيد المضارعُ الدعاء؛ وإنما يُفِيْدُ التَّألِـيِّ بخلافِ (رحمه الله).. ثم قال ابن الأعرابيِّ: ((ومنه قولُ أبي جُنْدُبٍ الهُذَلىِّ:
وكُنتُ إذا جَارِي دَعَا لِـمَضُوفةٍ
أُشَمِّرُ حَتى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي
[شرح أشعار الهذليين 358]؛ وإنما يُخْبِرُ عن حَالِهِ لا عمَّا مَضَى من فِعْله)).. وانظر على وجه العموم مادةَ (كان) في الْـمُفْرَدات للراغِب، وعمدة الحفاظ للسَّمِين.
قال أبو عبدالرحمن: الأصْل في مادَّةِ (كان) أنها لِـحَدَثٍ وقع في الماضي.. لا مَعْنَى لها غيرُ ذلك؛ فإذا صار الْـخَبَرُ بها عن الله سبحانه وتعالى فهي على بابِها: أنَّ الله هو كذلك في أَوَّلِيَّتِه؛ إذْ هو الْأَوَّلُ لا شيئ قَبْلَه، وقد أَقَمْتُ البرهانَ على أنَّ أَوَّلِيَّةِ الله سبحانه وتعالى حَتْمِيَّةُ التَّصَوُّرِ بالبراهين الشرعية والحسية والعقليَّة في مناقشتي الأخ (الضُّحَيَّانِ) بهذه الجريدةِ مِنْذُ سنوات.. وإذا صار الخبر بـ(كان) عن حدوثِ مخلوقٍ أوْ حَدَثٍ يَتَعَلَّقُ به: فإنَّ (كان) أيضاً على بابها؛ لأنه كما أسلفتُ لا مَعْنَى لها غيرُ ذلك؛ وعلى هذا الأصل سَأُناقِشُ ما مَضي مِن النقل عن (تاج العروس)؛ فأما قولُ الكِسائيِّ رحمه الله تعالى: (( إنَّ قولَهم: (مَرَّ على كان زيدٍ) [بكسر الدال مِن زيدٍ] بمعنى (مَرَّ على زيدٍ)؛ وأنَّ (كان) تَدْخُلُ في الكلام لغواً: فذلك باطلٌ باطل باطل، وليس في لغةِ العربِ حرفٌ فما فوقه زائد لغير معنى .. وهكذا مُوافَقَةُ الجوهريِّ الْكِسَائِيَّ، وإضافتُه: (أنَّ (كان) تأتي زائدةً للتوكيد) .. إذنْ ما معنى الحكْمِ بزيادَتِها ما دامتْ للتوكيد؟!!.. وأما بيتُ الفرزدق (كانوا كرامِ) بكسر الميم عَطْفاً على قومٍ في قوله: (بدار قومٍ).. وتأويلُ أبو العباس ثعلبٌ؛ وهو: (وجيرانٍ كرامٍ كانوا لنا) الذي سَوَّغه ابنُ سِيْده: فكماله: (فكيف إذا مَرَرْتُ بدارِ قومٍ كرامٍ كانوا لنا): فهذا تأويلٌ ينتهي إلى الْـمُعاياة، وتغيير نظام الكلامِ بالدَّعْوى، والتَّدَنِّـي به عن دَرَجةِ الفصاحَةِ؛ فما بالك بالبلاغة؟!!.. هل خَلَقَهُمْ الله ليكونوا لقومِ الفرزدَقِ كِراماً فقطْ وَأَبَداً؟!!.. إنَّ الحكم بأنَّ بيتَ الفرزدق لَـحْنٌ حَدَثَ بعد فسادِ السليقةِ: أسهلُ من تحطيم لغةِ العربِ فصاحةً وبلاغةً.. ولقد أبَى الإمام أبو محمد ابن حزمٍ رحمه الله تعالى ما هو فوق ذلك من أشعار العرب.. أَبَى أنْ يكونَ شِعْرُ بَوَّالٍ على عَقِبيْه حُجَّةً على كلام الله الذي هو تنزيل مَن علَّم الناسَ اللُّغاتِ، وَجَعَلَها للبيان.
قال أبو عبدالرحمن: وأما أنَّ {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسَِ} [سورة آل عمران/ 110] للحال: فذلك تأويلٌ فاسِد يلزم عنه إلغاءُ المعنى الأصْلِيِّ الذي لا يصِحُّ غَيْرُه بالدَّعوى العارية؛ ولو جاز ذلك: لجاز حَمْلُ كلِّ كلام الفصحاء على غيرِ مرادِهم الذي أَدَّوْه بدلالةِ لغة العرب؛ فما بالك بكلام الله.. ويلزمُ عن هذا التأويل الفاسدِ أنَّ أَمَّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجت للناس حال نزول الآية الكريمة؛ فهل زال عنهم هذا الوصْفُ الكريم قَبْلَ وبَعْدَ نزول الآيةِ الكريمة؟.. ألا ما أسْهلَ وأرخص التلاعبَ بكلام الله سبحانه وتعالى بالدعوى!!.
قال أبو عبدالرحمن: معنى الآية الكريمة بأوضح دلالةٍ بلا تَحَكُّمٍ: أنَّ أُمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم (وهي أُمَّةُ الإجابةِ لا أُمَّةُ الدعوة التي لم تُؤْمِن): كانوا فيما مَضى من عِلْمِ اللهِ وقضائه خَيْرَ أُمَّةِ أخْرجتْ للناس.. فهم لَنْ يزالوا كذلك إلى يوم القيامَة؛ لأنه لا خُلْفَ في علم الله وقضائه الذي أَخْبَر به.. والحدوث ههنا حدوثٌ للمخلوق، وحُدُوْثٌ يَتَعَلَّقُ بالْـمَخْلُوْق لا للخالق تَقَدَّس وعلا.. أَحْدَثهم الله بخلْقِه إياهم، وأحدثهم بإنشائه إياهم في الأوقات التي هي في علمه وقضائه اللذين أخبر عنهما ابتداءً وانتهاءً بالزَّمَن الذي حَدَّدَه، وأحدث ما قضاه لهم من الخيريَّة مِنذ وُجِدوا إلى أنْ تقوم الساعة؛ إذن الجملةُ مِن قولِه تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسَِ} لا يمكن تفسيرُها مُنْفَصِلَةً عن سياقها، وهو قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [سورة النساء/ 95-96] .
قال أبو عبدالرحمن: قولُه سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} على بابها للحدث الماضي، وهو حدثٌ للمخلوق لا للخالق سبحانه وتعالى؛ فالذي حدث صفةٌ تتعلق بالمخلوق؛ وهي مغفرة الله ورحمته له، وهي أيضاً جهادهم الذي هو أفْضَلُ من القعود مع الإيمان .. والله يحجب رحمته عن الكافرين يوم القيامة ما دامت السموات والأرض إلى ما شاء، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله تعالى، والله المستعان .