أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
التَّقْدِيْمُ باستراحتين:
قال أبو عبدالرحمن: دعوتُ بعض إخواني في الحِرْفَةِ القلمية يومَ الْجُمعَةِ الماضي ليلة السبت؛ ليحضروا أُمْسِيَتي الشعرية التي جعلتها بديلاً عن محاضرة معالي وزير الثقافة والإعلام المشغولِ بمرافقة خادِم الحرمين الشريفين.. ودعوتهم أيضًا لمواساتي في مُصابِي الْجَلَلِ؛ فلم يحضرْ منهم أحد؟!!..
ألا يعلمون أنَّ لهم بكلِّ خُطْوَةٍ أجْرًا ؟!.. كلَّا إنهم يعلمون، ويعلمون أنَّ المسلمين جَسَدٌ واحدٌ إذا اشتكى منه عُضْوٌ تداعَى له سائر الجسد بالحُمَّى والسهر.. ولا سيما الأستاذُ إبراهيم التركي الذي يراسلني منذُ حَمَلَ اليراعَ.. ما بالهم هداهم الله وقد أجهد خادم الحرمين الشريفين نَفْسه متَّعه الله بالصحة والعافية، ومَتَّع المسلمين بوجوده.. أجهد نفسه بالبحث عن هاتفي لِيُعَزِّيني، وهكذا فعل أمير الرياض جزاه الله خيرًا، وهكذا فَعَلَ أشياخ يتوكَّؤُوْنَ على الْعِصِيِّ.. وهذا أحد بَقِيَّةِ السَّلَفِ سماحة الشيخ صالح الفوزان مَتَّعنا الله بوجوده كان يُرِيْدُ أَنْ يُجَشِّمَ نفسه مَشَقَّةً حتى أقسمتُ عليه.. ولستُ أشتكي ليلةَ السبت الماضيةَ مِن قِلِّة الْحُضُوْر إلا أنه لا مَشْبَعَ مِن لقاء جميع الأحِبَّةِ.. ألا إنَّ مَن ينبغي أن يَرْكَنَ إليهم طالِبُ العلم بعد الله رجالُ العلم الشرعي (أهلُ الْقُرْآنِ)؛ لِما فتح الله به على قلوبهم مِن أداءِ حَقِّ أخيهم الْمُسْلمِ؛ لِمَا يعلمونه مِن عِظَمِ الأجر.. ولو عَزَّاني أمثالُ التركِيِّ مهاتفةً لكان ذلك أَقلَّ ما يجب، ولَعَذَرْته، والله المستعان.
مادَّةُ: كَلَأَ:
قال الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى في مقاييس اللغة 4/874: (الكاف واللام والحرف المعتلُّ أو الهمزة أصلٌ صحيح يدلُّ على مراقبةٍ ونَظَر، وأصلٌ آخر يدلُّ على نباتٍ، والثالث عضوٌ من الأعضاء، ثم يُستعار؛ فأمَّا النظر والمراقَبة فالكِلاءَة؛ وهي الحِفْظ.. تقول:كلأه الله.. أي حَفِظه.. قال الله عزَّ وجل: قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ [سورة الأنبياء/42].. أي يحفظُكم منه؛ بمعنى لا يَحميكم أحدٌ منه، وهو الباب الذي ذكرناه أنّه المراقَبة؛ لأنَّه إذا حفظه نَظَر إليه ورَقَبه، ومن هذا القياس قولُ العرب:تَكَلَّأْتُ تَكْلِئَةً.. أيْ اِسْتَنْسَأْتُ نَسِيئَة؛ وذلك من التأخير، ومنه الحديث: (نَهَى عن الكالىءِ بالكالىءِ).. بمعنى النَّسيئة بالنسيئة، وقول القائل:
وعينُه كالكالِئ الضِّمارِ
فمعناه أنَّ حاضرَه وشاهدَه كالضِّمار؛ وهو الغائب الذي لا يُرْجَى؛ وإنما قلنا: (إنّ هذا البابَ من الكُلَاءة)؛ لأنَّ صاحبَ الدّين يَرْقُبُ ويَحفَظ متى يَحِلُّ دَينُه؛ فالقياسُ الذي قِسناه صحيحٌ، [و] يقال: اكتَلأْتُ من القوم.. أي احترستُ منهم، وقال:
أنَختُ بعيرِي واكتَلأْتُ بعَينِه وآمَرْتُ نفسي أيَّ أَمْرَيَّ أفْعَلُ
ويقال: أكْلَأْتُ بصرِي في الشَّيئ، إذا ردَّدته فيه؛ والمُكَلُّأُ:موضعٌ تُرفأُ فيه السُّفُن، وتُستَر من الرِّيح.. ويقال: إنَّ كَلاَّءَ البَصرة سُمِّيت بذلك.. والأصلُ الآخر الْكَلَأُ، وهو العُشْب؛ يقال أرضٌ مُكْلِئة.. [أي] ذاتُ كَلَإٍ، وسواءٌ [لَوْ حذف الواو لكان أفْصَحُ] يابسُه ورطبُه، ومكانٌ كالئ مثلُ مُكْلِئ.. والأصل الثالثُ الكُلْيةُ، وهي معروفة، وتُسْتعار؛ فيقال الكُلْية: كُلية المَزادة.. جُليدةٌ مستديرة تحتَ العُروة قد خُرِزَت؛ ويقال ذلك في القَوس، فالكُلْيَتان من القَوس: مَعْقِد الحِمَالة..[و]من السَّهْم: ما عنْ يَمينِ النَّصِل وشِماله، وكُلْية السَّحاب: أسفلُه، والجمع كُلًى.).
قال أبو عبدالرحمن: الكُلْية من مادَّةِ الياءِ، ولا علاقة لها بمادَّةِ الألف المهموزة في (كَلَأَ)، والجذر الثنائي ههنا كما يلي سِتُّ موادَّ هي: كَلَأَ.. كَأَلَ.. لَأَكَ.. لَكَأَ.. أَلَكَ [الهمزة أصْلِيَّةٌ وليستْ استفهاميةً].. أَكَلَ؛ فإلى وقفات قادمة إن شاء الله تعالى حول الْمُسْتَعْمَلِ والْمُهْمَلِ في هذا الجِذْرِ الثنائي لهذه المادة مع ملاحظاتٍ حول ضَبْطِ بعضِ الْمُفْردات.
* وما قَتَلُوْهُ يَقيْنًا:
قال أبو القاسم جارُ اللهِ محمودُ بنُ عمرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عفا الله عنه في تفسيره (الْكَشَّافُ)1/580 / دار الفكر طبعتهم الأولى 1397هـ.
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (157) سورة النساء، وما قتلوه قتلًا يقينًا، أو ما قتلوا متيقنين كما ادَّعوا ذلك في قولهم ?إنا قتلنا المسيح?، أو يُجْعَلُ [بالتاء الْمُثنَّاةُ من فوق أسْلَم؛ لأن المراد الْكَلِمَةُ؛ ولا يُنْسَبُ اللفظ إلى الله سبحانه وتعالى] يقينًا تأكيد لقوله:{وَمَا قَتَلُوهُ}كقولك: (ما قتلوه حقًّا).. أيْ حقَّ انتفاءِ قتْله حقَّا وقيل: هو من قولهم:(قتلت الشيئ علمًا، ونحرته علمًا) إذا تبالغ فيه عِلْمك؛ وفيه تهكُّمٌ؛ لأنه إذا نفى عنهم العلم نفيًا كُليًّا بحرف الاستغراقِ، ثم قيل: (وما علموه عِلْمَ يقينٍ وإحاطة): لم يكن إلا تهكُّمًا بهم).
قال أبو عبدالرحمن: هذا الإمام الفحلُ في اللغةِ والبلاغةِ يُجانِب الفصاحةَ بعض الْمَرَّاتِ، والكمالُ لله وحده سبحانه وتعالى؛ وهذا النص هو الأصل لِلْمُفَسِّرِين الذين اغْتَرُّوا به؛ فتابَعُوْه، وغاب عنهم تفسيرُ الآية على مُرادِ الله الذي هو ظاهِرُ النَّصِّ يقينًا؛ إذْ المعنى: (حاول اليهودُ قتل عيسى بن مريم عليهما سلامُ الله وصلواتُه وبركاتُه، ولعن الله كفرةَ اليهودِ لعائنَ تترى، وَهَيَّأَ الله لهم شبيهًابعيسى؛ فقتلوا الشَّبِيْهَ؛ فظنوا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام؛ فنفى اللهُ قَتْلَهُمْ إياه نفيًا يقينًا، وحَمَّلَهُمْ وِزْرَ القاتِل.. وأمَّا كونُهم غيرَ مستيقنين أنهم قَتَلَوْه: فليس ذلك هو مراد الآية، ولا تأثير ليقينهم أو شَكِّهم؛ لأنَّ المُرادَ أنَّ الله نفى قَتلَهم إياه نفيًا يقينًا وإن كان القاتِل يَقْتُلُ ضَحِيَّته ومع هذا يكون شاكَّاً في كونه قَتَلَه كما أسلفتُ في الحلقةِ الأولى السابقة.
السَّعادةُ الدائمةُ:
قال أبو عبدالرحمن: إذا حَصَلَتْ لك سعادةٌ مِن جَرَّاءِ مُمارسةِ عملٍ أو قولٍ عَمَلُهُ أوْ قَوْلُهُ مُباحٌ وملازمتُهما أفضل (أي ليس مِن الْمُباحِ الذي تَرْكُه أفْضَلُ كقول الإمامِ ابن حزم رحمه الله تعالى -وقد تو سَّعَ في سماع الآلات بإطْلاق-: الغناءُ مباح، وَتَرْكُ سماعِه أفضل.. أو حَصَلَتْ لك سعادةٌ مِن جَرَّاءِ أَمْرٍ مُسْتَحَبٍّ، أو مُؤَكَّد الاستحباب، أو واجب: فَتَعَهَّدْ ساعاتِ يَقْظتِك في ليلك ونهارِك؛ ليكون ذلك مُلازِماً إيَّاك مَدَى عُمْرِك؛ فَتَسْلَمَ من فضولِ القولِ، ومن الْمَكْرُوْهِ، ومِن الْمُحَرَّم؛ وذلك هو تَزْكِيَةُ النفس، والضمانةُ للعصمة؛ لأن الرسولذَكَرَ الْمُتَقَرِّبَ إليه بالذراع والباع والهرولة، ولقد بَيَّنْتُ في مناسبةٍ سابقة أنَّ ذلك على المجاز، ولا يَحِلُّ القولُ بغير ذلك، وأنَّه مِن البراهينِ على نُفاةِ القياس.. وذلك أيضاً هو السعادة الدائمة.. وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.