برهن المجتمع السعودي على أنه يعيش قفزة كبيرة في الوعي المجتمعي، فمنذ اللحظات الأولى من الأوامر الملكية الأخيرة التي أصدرها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -يحفظه الله- بدأت التحليلات المتنوعة للكثير من الأبعاد المتضمنة في تلك الأوامر.
وفاضت النقاشات والتوقعات في وسائل التواصل الاجتماعي -كتويتر والواتس آب-، بل وصل البعض إلى استنتاجات، إن بقوالب احتمالية أو قطعية. وكل هذا يحتاج إلى معالجات معمقة ومطولة، ولكنني أركز في هذا المقال على مسألة واحدة وهي قرار الدمج بين وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي، ولن أطرح فيه أفكاراً أو توصيات عملية أو فنية في عملية الدمج، بل سأتوجه إلى شيء آخر، لاعتقادي بأنه أكثر أهمية.
ثمة حيثيات ومعطيات وتجارب وممارسات كثيرة يمكن أن تقال عن هذا الدمج، وقد رأيت بعض المقالات الجيدة حول هذا الموضوع، وقد ركز أغلبها على إعطاء مقترحات وتوصيات عملية، في حين لامس البعض جوانب تحليلية تشخيصية، وأنا أحسب أن تلك الطروحات مفيدة للغاية، وبالذات ممن يمتلكون الأدوات الجيدة في التحليل والبلورة مع خبرات متراكمة في الفضاء التعليمي، سواء في شق التعليم العام أو في شق التعليم العالي.
ومع أهمية التعاطي الجاد مع تلك الطروحات، أشدد على أهمية التلبس بـ «الشفافية التامة» من قبل وزير التعليم، فهي سمة ضرورية لهذه المرحلة، التي تشهد تحولاً نوعياً في الوعي المجتمعي السعودي، وتوافراً وشيوعاً مذهلاً للمعلومة. والمطالبة بالشفافية في هذه المرحلة تعود إلى مسوغات أراها مقنعة، ويمكن اختزالها في جانبين أساسيين:
1- عملية الدمج شائكة جداً، ولا سيما أنها تضم وزارتين قديمتين، ومؤثثتين بإرث إداري وتنظيمي متباين، مع اختلاف جلي في جوانب عديدة كالموارد البشرية وبعض المهام والاختصاصات التنظيمية، كما أنهما وزارتان كبيرتان في أعداد موظفيها وضخامة أعمالها وتعدد مؤسساتها، فضلاً عن ضخامة الاعتمادات المالية والأصول والمرافق والمقرات التي تعد بالآلاف. وينضاف إلى ذلك أطر لها أبعاد قانونية صرفة، ومثل هذا الأمر يجعل الكثيرين يهتمون بشأن الجانب القانوني والإداري والتنظيمي والمالي والفني من عملية الدمج، وهنا نلمس جانباً من أهمية الشفافية التي أطالب بها.
2- الانتشار الواسع للمعلومات وتنوع طرائق تناقلها وسهولة ذلك، يوجد فضاءات متزايدة لتطاير إشاعات وأقاويل من شأنها البلبلة والإرباك، وقد تخلق أجواءً من التخوف عند بعض الأطراف أو الأماني غير الواقعية، والتي تسبب نوعاً من الإحباط عند التيقن بعدم تحققها، ومما لا شك فيه أننا في غنى عن كل ذلك الجانب السلبي، فالحل يكمن في الشفافية.
كل ما سبق، يقودني إلى مطالبة معالي الدكتور عزام الدخيل بإيضاح «خارطة الدمج»، وهذا لا يعني المطالبة بإيضاح كافة التفاصيل، كلا بل بإيضاح المفاصل الكبرى في عملية الدمج فقط، ولو تضمن ذلك قدراً كبيراً من عدم الجزم بشأن مسائل عديدة، فهذا أمر متوقع جداً، فعملية الدمج توجب اللجوء إلى الخبراء لرسم تصور بل خطة متكاملة للدمج، وتقدم بيوت خبرة استشارات فنية متخصصة تعكس المراحل والعمليات والمتطلبات والعقبات التي يجب أخذها في الاعتبار قبل عملية الدمج وفي مختلف مراحلها وأبعادها.
نعم، أوضح لنا هذه الخارطة دكتور عزام، وإن بخطوط عريضة في سياق يستوعب إدارة التغيير والتحول ضمن ما يتوفر لديكم من تصورات وخطط ومبادرات حيال مسألة الدمج، وأنا أعتقد أنها موجودة بالفعل، فهي أساس صناعة قرار الدمج. سيكون هذا الإفصاح مفيداً جداً، فالناس ستشعر بأنها شريكة في القرار وهذا توجه يجب تعزيزه في هذه المرحلة، ومن جهة أخرى سيوجه الناس جهدهم إلى المجالات التي تمس الحاجة إلى تناولها ومعالجتها ومن ذلك تطوير وإنضاج التصورات الأولية المطروحة، وإنني أشدد على أنه لا يسوغ أن نطرح مسائل مبتوتاً فيها أو محسومة، فذاك جهد ضائع، والوقت من ذهب، وهو عامل حرج في استغلال الفرص المواتية وتجنب التحديات المتنامية، مما يدفع باتجاه تشغيل العقول والخبرات الوطنية بطريقة ذكية.
على أنني أرجو أن يكون هذا الإيضاح سريعاً، وهو أمر يمكن تحقيقه خلال أيام قليلة، مع اقتراح عقد ورش عمل تضم بعض الفئات الممثلة لمختلف المؤسسات والإدارات الحيوية في الوزارة الجديدة، وأقطع بأن ذلك الأمر سيكون له انعكاس إيجابي كبير، وسيدشن مرحلة جديدة في إشراك الناس في القرار التنموي والإدارة المحلية، والسعوديون باتوا يمتلكون الكثير من الأفكار والرؤى والخبرات والممارسات، فهل نرى قريباً «خارطة الدمج»، وإن بخطوط عريضة؟ آمل ذلك، وأنا على قدر كبير من التفاؤل.