د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
ما يجري في منطقتنا محير حقاً حتى لأكثر العارفين بها والمتابعين لما يجري فيها. دولة تسمى «الدولة الإسلامية» لا يعرف لها أصل ولا فصل ومكونة من جماعات غير متجانسة كثير منها يعيش على أموال استخبارات إقليمية ودولية ذات تطلعات إلى غنائم دول منهارة وإقليم ممزق
يعاني من الفوضى العارمة وانعدام النظام والانتظام. هذا الإقليم وللأسف عربي مسلم لم يعرف الاستقرار منذ انتهت الحربان العالميتان نتيجة لفشل الأنظمة العربية في تحقيق الحد الأدنى من التوافق والتنسيق الذي يحفظ أمنها الجماعي، كما فشلت في إيجاد أي نوع من التكتل أو كيان سياسي ذي مصداقية يحافظ على الحد الأدنى من أمنها، بل ربما يجوز القول بأنها فشلت في إيجاد أي توافق لرؤية واقعية للعالم من حولهم.
وما هو أسوأ من ذلك أحياناً انشغال بعض الدول العربية بالتآمر على جاراتها حتى أنك لا تجد بلدا عربيا واحدا ليس له خلافات ومشاكل سياسية وحدودية مع جيرانه.
والدول الطامعة من حولنا تتابع ذلك وتستثمره باستمرار لإفقاره وتكريس تخلفه حتى أن دولة مثل إيران أصبحت تطمع فيه.
تركنا الاستعمار ممزقين وأصررنا على الحفاظ على تركته بكل أمانة وصدق. واعتقد أن القارئ يعرف أكثر من ذلك أيضاً لذا فلا حاجة للاسترسال.
اليوم يطل علينا بوتين ولا أقول هنا روسيا لأن بوتين يملك سلطة مطلقة في روسيا ويوجهها أينما شاء وكيفما يشاء فهو صاحب الرأي الأوحد وصورته هي الأهم وعلى البقية التنفيذ. وروسيا اليوم أقرب الدول الكبيرة شبهاً بالدول العربية في جمهورياتها العسكرية.
تدخل بوتين في سوريا دون استئذان أحد وأقام قاعدة في ساحلها وفرض حظرا للطيران وكأنما سوريا جزء من الحدود الروسية الجنوبية في عملية هي أشبه بالاحتلال.
الغرب بالطبع لم يحرك ساكناً لأنه لا يستطيع التكهن أين ستقف نوايا بوتين؟ فبوتين معروف في روسيا أنه يتبنى فكرا قوميا يريد أن يرى روسيا دولة عظمى على الساحة العالمية. وقد مكنه من حكم روسيا الرئيس يلتسين الذي لم يكن ذا شعبية كبيرة في أواخر حكمه، وعرف عنه إدمانه على الكحول كما أنه هو الذي فكك الاتحاد السوفييتي فعلياً. جرت بالطبع في روسيا انتخابات متتابعة، أتت ببوتين تارة وتارة أخرى بميديفديف.
وقد طبّعت خمسون عاماً من الحكم الشيوعي الشمولي الشعب الروسي على الطاعة العمياء عبر أكبر جهاز مخابرات عرفة التاريخ وهو «الكي جي بي»، وبوتين تخرج من هذا الجهاز بامتياز. ولذا هو يقود روسيا المطيعة اليوم في فترة تزامنت مع تراجع اقتصادي عالمي تدهور معه اقتصادها حتى انخفض مؤخراً بما يقارب 4%، وساهم ذلك في تحويل روسيا إلى دولة قومية أشبه بدول القومية الاشتراكية التي عرفتها أوربا قبل الحرب الثانية. والبعض ينظر لرغبة بوتين في التدخل في الخارج على أنه مغامرة خارجية لتحويل الانتباه عن الفشل الاقتصادي في الداخل، وكذلك لتعزيز الالتفاف القومي الذي يمثله حزب بوتين.
وربما أدرك الغرب أن روسيا اليوم هي غير روسيا بالأمس، ولذا فهو في حيرة من أمره في كيفية التعامل معها، ولكنه في جميع الأحوال لا يرغب في الصدام معها ويفضل أن تكون هذه من مهمات مستنقع الشرق الأوسط من خلال اجهاده في حرب عصابات كسابقتها التي اجهدت الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، أو حتى في حرب مع بعض دول المنطقة يستثمرها الغرب في شراء الامتيازات وبيع الأسلحة.
وأمريكا وأوربا وقوى المعارضة السورية تتهم بوتين بأنه قصف جميع القوى الثورية في سوريا ما عدا داعش التي ادعى أنه أتى لمحاربتها، وادعى أنها تشكل خطراً حقيقياً على روسيا. ويدعم بوتين ادعاءه بوجود مقاتلين شيشان وروس مع داعش ولم يتحدث الروس عن كيفية وصول مقاتليهم لسوريا أو عن تدخل الأجهزة الأمنية الروسية لمنعهم من السفر لسوريا في المقام الأول. فليس في القانون الدولي ما يشفع لطرف بالتدخل مباشرة في دولة أخرى بحجة واهية كهذه.
وكل الأمور تشير إلى أن الدب الروسي، كما يحلو للبعض تشبيهه، يريد ابتلاع سوريا بالقضاء على ثورتها ودعم نظامها المتهالك الذي ربما باعها له في اتفاقيات سرية. أما الجيش الحر، ومعه قوى المقاومة السورية الأخرى التي تتعرض لقصف روسي عنيف، فهو أشبه بشخصية انتوني هوبكنز الذي يقاوم الدب المسعور بيديه العاريتين في فيلم الحافة «Edge». وبينما انتصر هوبكنز على الدب في الفيلم، فلا أحد يعرف هل سينتصر الجيش الحر على الدب الروسي الذي يسعى لتطويعه أم العكس؟ كما لا أحد يعرف أين؟ ومتى؟ وإلى أين؟ سيتوقف تدخل روسيا في المنطقة.
أما الدول الغربية فهي تحاول اقناع نفسها أنه يمكن التحالف معه «لمحاربة الإرهاب» وذلك للاستهلاك الإعلامي الداخلي.
بوتين لا يستطيع القضاء على الثوار والدواعش الذين تمرسوا في الهروب من القصف الجوي بحرب جوية فقط، ولا أحد يعرف هل سيتبع ذلك تدخل بري أم لا؟ وكثير من الدواعش هم من بقايا النظام العراقي السابق من السنة العرب الذين تعودوا العيش تحت القصف، ويجدون أن أي نظام أرحم من فتك الحشد الشعبي والميلشيات الإيرانية بهم. ولذا فمن الواضح اليوم أن روسيا تقصف كل شيء يتحرك وكل هدف يحدده لها شبيحة الأسد، وإذا لم تجد ما تقصفه قصفت قرى وبلدات ومدن السنة السوريين.
وكثير من سكان المنطقة ينظرون للقصف الروسي على القرى والبلدات السورية على أنه استعراض عضلات ضد مدنيين.
تركيا من قبلها تتعاون مع التركمان الذين يقعون على حدود تماسها مع سوريا لانعاشهم اقتصادياً ولضمان سلامتهم، وسبق وهددت عراق صدام بعدم المساس بتركمان العراق وفعلت الشيء ذاته مع الأكراد. فالدعم التركي للتركمان له دوافع قومية وإثنية. والنظام السوري يكره التركمان لأنهم سنة أولاً ولولائهم لتركيا ثانياً، ولذا ربما وجه النظام السوري الطائرات الروسية لقصف مناطق التركمان على أساس أنهم يتعاونون مع داعش عبر الحدود التركية، فتم قصف قراهم المتاخمة للحدود التركية بلا هوادة، وهذا ما أزعج تركيا ودفعها لإسقاط الطائرة التي اخترقت حدودها في مدة 11 ثانية فقط.
عندما اسقطت تركيا الطائرة كان في حساباتها إرسال رسالة لبوتين في أنه لا بد من حدود لكبح جموحه في المنطقة، كما أنها كانت تعول على دعم حلف الأطلسي لها فدعت مباشرة لاجتماع عاجل لقياداته فور اسقاط الطائرة، واتبعت ذلك بعبارات فيها تحد واضح لبوتين، لكنها ما لبثت أن تراجعت واتبعت ذلك بمواقف ذات طابع اعتذاري بعد أن اتضح أن حلف الأطلسي خذلها وليس على استعداد للدفاع عنها. فالغرب احتاج تركيا إبان الحرب الباردة كمنطقة قواعد ومخابرات ضد الاتحاد السوفييتي، ولكنه ربما غير مستعد اليوم للدخول في حرب غير معروفة العواقب لحمايتها.
الغرب بالطبع لديه حسابات أخرى، فهو لا يريد الصدام مع بوتين، ويفضل أن تقوم بذلك قوى أخرى، وهو يخشى مواجهة كاملة معه ويرى في تورطه في سوريا، أو حتى في حرب مع تركيا ودول أخرى فرصة لتحجيم شهيته وطموحاته. وهو يعلم أن في ذلك مقامرة خطرة لأن شهية بوتين قد لا تتوقف عند ابتلاع سوريا فقط إذا ما تمكن من ذلك. وهو قد بدأ فعلاً بالتحالف مع إيران، وقد يتحالف مع إسرائيل أيضا لتقاسم النفوذ في المنطقة، وإعادة روسيا إليها. وهناك لغة واحدة فقط قد يتراجع بها بوتين، وهي لغة القوة التي تملك التهديد بها الولايات المتحدة الأمريكية فقط التي في عهد أوباما وكيري تتعامل بتراخ مفرط مع أزمات المنطقة، وتتصرف من منطلقات آنية وانتخابية فقط على ما يبدو. المؤكد أن المنطقة مؤهلة لمزيد من التأجيج ما لم تتحرك قوى العالم الديمقراطية، إذا جاز لنا القول، بالتحرك نحو تسوية سياسية غير طائفية في العراق، وتحجيم أطماع إيران، والأكراد أيضاً، والتحرك بشكل قوي نحو حل القضية الفلسطينية.