د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تنتقل من بيت لآخر فتدهشك كثير من الأشياء التي اقتنيتها سابقاً ثم نسيت أنها موجودة لديك، بعضها مفيد ومبهج وبعضها غير ذي فائدة فتكون مناسبة الانتقال فرصة للتخلص منه. ويواجه من ابتلوا باكتناز الكتب مشاكل خاصة في الانتقال بها وتنظيمها مرة أخرى.
فالكتب كالأفكار وتحتاج أماكنها أن تنتظم في ذاكرة صاحبها قبل أن تنظم على الرفوف وفي الدواليب. وقد كان هذا الأمر أصعب ما واجه الكاتب في حركة النقل المرهقة بعد مشوار أكاديمي طويل. فبعض الكتب دهشت أنها بحوزتي، وأخرى وجدت الفرصة سانحة للتخلص منها. وارتبطت مجاميع الكتب بالتغيرات والتقلبات الفكرية ليس لصاحبها فقط بل وللمجتمع ككل، فالمجتمعات تمر بمراحل تسودها فيها تيارات فكرية معينة تنعكس في مؤلفاتها التي تلقى رواجاً حينئذٍ ويقبل عليها الناس وينظرون للعالم من حولهم من خلالها فتشكل رؤيتهم العصرية لما عاصرهم من أحداث وظواهر.
أكثر الكتب أهلية للتخلص منها هي وللأسف مؤلفات عربية. كتب أدركت فيما بعد القيمة الحقيقة لها، فهي ورغم أن بعضها كتابها كباراً بمقاييسنا العربية، إلا أنه تبين أنها تعاني من عور في المناهج، أو أنها ترجمات رديئة مقتبسة لمثيلات لها غربية، أو أنها أكل عليها الدهر وشرب وتنتمي لفترات تاريخية تجاوزها الزمن. والحقيقة المؤسفة هي أننا كنا نستهلك معارف بعض هذه الكتب دونما هضم نقدي لها نقوم فيه بشكل موضوعي محتواها، وكنا نعتقد أن كل ما تحويه الكتب صحيح وإلا لم تتكلف المطابع عناء طباعتها.
أما علاقة عنوان المقال بهذه الكتب فهو أن تصفح بعض هذه الكتب ذكرني بطريقة طريفة لا تنسى لاقتنائي لها، والتي سأعترف بها وبأنها كانت وللأسف غير شرعية، قمت بتهريبها من الخارج بأسلوب درامي. وكان تهريب الكتب أمراً معتاداً في ذلك الوقت لأن وزارة الإعلام كانت تحظر معظم الكتب إلا ما يطبع في المملكة وتجيزه هي. ولكن في حالتي فقد هربت عدداً لا بأس به من الكتب لأن القراءة بالنسبة لي كانت مثل الغذاء ولا يمكن الاستغناء عنها. ولكني أحاول أن اقنع نفسي بأن الأمر كان من طيش الشباب وأنه كان خطأ أبيض غير ضار، من باب ما يردده البعض عن الكذب الأبيض غير الضار. فتهريب الكتب بلا شك أهون من تهريب أمور أخرى محرمة أو ضارة بأمن الوطن، ورغم ذلك لازال يخامرني بعض الاحساس بالخطأ لأن التهريب هو التهريب بصرف النظر عن نوعية المهرب.
بدأت القصة فور عودتي من أمريكا في منتصف الثمانينات, حيث كانت الأجواء الفكرية في أمريكا وفي أوربا في أكثر مراحلها انفتاحًا إبان الحرب الفيتنامية. وكانت الجامعات تعج بالأنشطة السياسية وبعض الأنشطة الثقافية والإنسانية، والأجواء العامة تشجع على القراءة. اما داخلياً في المملكة فقد كانت الظروف تختلف جذريا عما هي عليه اليوم، حيث لا اعلام فضائي، ولا انترنت، ولا اعلام جديد، وكانت الرقابة صارمة على الكتب التي تدخل المكتبات أو تباع في الأسواق فكان لا بد من طريقة للحصول على ما يقرأ. أما الكتب المتاحة في المكتبات فهي كتب سيد قطب، وكتب الجهاد، وكتب المعجزات الدينية. ولم تكن هذه الكتب تستهويني حيث إني كنت غير مقتنعاً أصلاً بالصراع في أفغانستان، وكنا نعتقد أن حرب أفغانستان هي مسرح لصرف النظر عما تقوم به اسرائيل. فجاءت الرحلة لدولة خليجية مجاورة من قبيل الحج وتلقيط المسابح، كما يقال.
كانت الدولة الصغيرة المجاورة تعج بالمكتبات والكتب التي بدت مغرية بالقراءة آنذاك، الأدب الواقعي، الفكر الفلسفي وما شابه من فكر مختلف عن كتب قطب وعزام وغيرهم. كما كانت هناك كتب تتكلم عن القومية، والتخلف والتبعية في العالم العربي كثير منها من مؤلفات عرب الشمال الذين كنا مبهورين بفكرهم وعرفنا اليوم أنهم بعضهم كان يجتر علينا ما يكتب باللغات الغربية. بدأ الموضوع بشراء قليل من الكتب للاطلاع ثم تزايد عدد الكتب وانقضت مدة الإجازة فلم يكن من الممكن ترك الكتب دونما الاطلاع عليها وهنا «وسوس الشيطان والعياذ بالله بإدخالها سراً للمملكة». والأمر في نهايته يتعلق بتهريب كتب وليس أي شيء آخر مستهجن. وهنا استحضرت المثل القائل، إذا أكلت بصيل فكل بصل، وتمت زيادة غلة الكتب المعدة للتهريب.
وبعد إخفاء الكتب تحت المقاعد وحان موعد الإياب ذهبت لوداع قريب لي عزيز وفاضل ويكبرني في السن والذي عندما أخبرته بأني سأعود للمملكة قيادة أصر على مرافقتي من قبيل النخوة والخوة في الطريق الطويل، ففرحت بذلك لأن ذلك سيبدد الشوك حولي لا سيما وأن برفقته رفيق له يشاركه في أمارات الوقار والصلاح. وبدأت الرحلة، وبمجرد الوصول على الحدود لاحظت ارتباكا كبيراً على الشيخين فاعتقدت أنهما يعرفان بأمر الكتب المحشورة أسفل مقاعدهم، ولكن لم يكن لا الموقف ولا الوقت يسعف بالسؤال ولا بد من ضبط النفس.
تجاوزنا الحدود بسلام وتنفست الصعداء، ولكني وجدتني وصحبي الكرام في الهواء سواء، فقد خيمت عليهم حالة من السكون العميق التي يعقب العاصفة، ولم يكونا بأحسن حال مني. وبعد فترة من تبادل النظرات، والرغبة الملحة لمعرفة الوضع بالضبط، التفت العم الذي في المقعد الأمامي إلى الشيخ الجالس في المقعد الخلفي وقال: ستر الله! وما أن سمعت هذه العبارة حتى اصبت بهزة عصبية بالدرجة السابعة لريختر، لأني جزمت بأنهما يعرفان بأمر الكتب، فبادرت بالسؤال: ستر الله على ماذا؟ فالوضع لم يعد يحتمل السكوت. فأجابني العم بأن زميله قد خبأ في حقيبته جهاز راديو صغير به إف إم يلتقط مكالمات النجدة. وهنا التقطت نفساً عميقاً وقلت في نفسي: نعم ستر الله والله خير الساترين. ولم أخبره بموضوع الكتب إلا بعد سنوات لتقديري له وخوفاً من عتاب منه.
خطرت ببالي هذه الحادثة الطريفة وأنا القي بالكتب التي هربتها في سلة النفايات، وتفكرت مع ذلك كيف اختلفت الحياة وكيف اختلفت الرؤية للعالم والثقافة في مجتمعنا. فالكتب التي هربتها سمح بها فيما بعد وعجت بها المكتبات ومعارض الكتاب، وكتب قطب وعزام وما شاكلها سُحبت من الأسواق لأنها وجد أنها تدعم التطرف والتكفير ومفاهيم الولاء والبراء. كما أن الناس توقفت عن تسلية نفسها بالإصغاء لمكالمات النجدة لأن أخبار أمن البلاد أصبحت تصلها بشكل مباشر ومؤكد، وتغيرت مفاهيم التسلية والترفيه بعد أن انفتحت أبواب السماء بكافة محطات التلفزيون العالمية فلم يعد الإصغاء للنجدة مغريا.
أما الكتب التي كنت شغوفاً بها فقد انهارت مع انهيار الإيديولوجيات التي تدعمها، كما أني بدأت أقرأ بشكل كبير بالإنجليزية عند التحضير لمرحلة دراستي العليا، واضطررت لقراءة بعض كتب الفلسفة والاقتصاد بلغاتها الأصلية فعرفت أن ما كنا ندمن على قرأته فكر رديء مزخرف بشعارات غير واقعية لا معنى حقيقي لها. واليوم أدركت أن الحقيقة وليدة العصر، وأنه لا توجد حقيقة مطلقة بل مجموعة من الحقائق تعتمد بشكل كبير الوعي الجمعي لعصرنا الذي نعيشه، ووجدت أن الحياة أجمل وأمتع مع تعدد الآراء والرؤى بعيد عن التشنج والتزمت، فعقل الإنسان يكتسب المرونة والجمال مع الصقل الفكري الدائم ومع التنقل بين الأبعاد في النظر للظواهر.