د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الأعمال الإرهابية أكثر أعمال العنف بشاعة في التاريخ الحديث، وهي تزاد وتتطور كمّاً وأسلوباً، ولا يوجد بشر عاقل لا يشجبها، وهناك شبه إجماع عالمي رسمي على ضرورة مكافحته، ومع ذلك لا يوجد أي إجماع حول تعريفه، أشكاله،
قوانين تجريمه وإلى آخر ذلك مما يتطلبه عادة التعامل مع الملفات الشائكة مثل الإرهاب. والإرهاب مهما صدمتنا بشاعته هو في عمقه ظاهرة سياسية ثقافية مثلها مثل الظواهر الأخرى التي مرت بها المجتمعات في تاريخها وتسببت في ممارسات عنيفة عانت منها كثير من الشعوب بعضها لفترات طويلة، وهو ليس قاصر على المجتمعات الإسلامية فقط، فكانت الانفجارات والاغتيالات تعم أوروبا إبان الحرب الباردة تمارسها الاستخبارات عبر جماعات يمينية ويسارية متطرفة فكانت أوروبا آنذاك أشبه بساحة معارك. وحصلت أمور مشابهة في أمريكا الجنوبية حيث كانت المنظمات اليسارية تمارس ما يسمى بالعنف الثوري وتقابلها منظمات يمنية عنيفة تمارس عنف ثوري مضاد بعضها جماعات خلقتها الأنظمة ذاتها لتمارس بتفويض منها العنف المقابل.
وما حصل في فرنسا مؤخراً وقبله في بريطانيا يختلف في جوهره عما حصل في أمريكا في 11سبتمر من حيث كون الأحداث الأخيرة ذات طابع محلي، وليست مستوردة بالكامل حتى ولو ربطت بجماعات خارجية في سوريا أو العراق فمن نفذوها مواطنون في هذه الدول الأوروبية ولادةً ومنشاءً وثقافة. ولكن بالنسبة للأوربيين، وفي خضم الضجة الإعلامية التي تغطي على كل صوت مخالف، العنف والإرهاب هي دائماً مشكلة الآخر، وهي ليبست مشكلة قيم شباب ضواحيهم بل مشكاة الإسلام المتطرف كما يسمونه، ولا يبحثون عادة عن الأسباب التي دفعت شبانهم غير البيض للتطرف، كما هي حرب ضد القيم الأوروبية الأمريكية الرحيمة والإنسانية، قيم التسامح الديني والديمقراطية السياسية.
وإعلامياً نعم هذه هي الحقيقية ولكن واقعياً الصورة أقل نقاءً حيث أن ممارسة هذه القيم يختلف تماماً عن واقع الكلام عنها، وتوزيع الحقوق والواجبات يختلف حسب اللون، والأثنية، والطبقة الاجتماعية، والخلفية الثقافية.
القيم الغربية الرسمية التي تتحدث عنها وسائل الإعلام هي قيم رسخت بعد إعلانات حقوق الإنسان في أمريكا بعد حرب الاستقلال عام 1776، وإعلان حقوق الإنسان الفرنسي عام 1789 وهي إعلانات متقاربة زمنياً إلا أنها تبعت أزمات عنف عصفت بتلك البلاد نتيجة لصراعات حول القيم الإنسانية وحول الحقوق والواجبات لكل فئة.
فاعلان أمريكا أتى لإنهاء أزمة طاحنة بين الجنوب الإقطاعي والشمال الرأسمالي حول حق امتلاك الإنسان الإفريقي في الجنوب واستعباده بشكل غير مباشر في الشمال. والإعلان الفرنسي أتي لإنهاء أنظمة الإقطاع الفرنسية التي مارسها حكامها آنذاك واستعبدت الشعب الفرنسي بكافة طوائفة لصالح الطبقة الصناعية الناشئة. والغريب أن هذه الإعلانات حصرت الحقوق في الإنسان الأبيض فقط، والدليل أن مواثيق هذه الإعلانات لم تطبق على المستعمرات، وعلى الملونين إلا بعد قرون، فالتمييز العنصري ضد السود في أمريكا لم ينته إلا بعد حركة الحقوق المدنية في الستينات. ثم تلا ذلك الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته هيئة الأمم المتحدة في ديسمبر 1948م بعد الحرب العالمية الكبرى، وهو ما يتم التلاعب به اليوم ديمقراطياً.
الواقع أن مواثيق حقوق الإنسان هذه طبقت بانتقائية وباستثناء لبعض الشعوب بشكل واضح وصارخ بمباركة ضمنية من الغرب، فالتمييز العنصري استمر بأبشع صوره في جنوب إفريقيا سابقاً وفي فلسطين حتى يومنا هذا. الأول ضد الأفارقه السود والثاني ضد العرب، فئتان هما الضحيتان الكبريان لعنصرية القرنين العشرين والواحد والعشرين ليس لاختلافهما عن الأوروبيين في اللون بل والمعتقد أيضاً.. والواقع أن السكوت عن ممارسة التفرقة العرقية ضد الشعوب الإفريقية والعربية لم يكن عن تغافل حتى ولو تظاهرت الدول الغربية بغير ذلك، فممارسات فرنسا الديمقراطية، فرنسا التنوير، فرنسا المسواة في الجزائر إبان ثورتها أكثر ممارسات العنف بشاعة حتى بالمعايير الاستعمارية ناهيك عن المعايير الإنسانية وهذا يدلل على مفاهيم حقوق للإنسان مزدوجة ومختلفة عما تتكلم عنه اليوم، ومثلها مثل ممارسات أمريكا في فيتنام وغيرها. والقائمة تطول في هذا الشأن وقلما يوجد بلد غربي لا يطالب باعتذار تاريخي عن ممارسات همجية ارتكبها.
الوضع الازدواجي لحقوق الإنسان في الغرب موجود حتى اليوم ويمارس بشكل يومي إلا أنه أصبح أكثر ذكاءً وتعقيدًا وهو يشتد في أوقات الازمات الاجتماعية والاقتصادية. فالديمقراطية التي يقدمها الغرب للبيض غير تلك التي تقدم للملونين، وعندما ينتظم الملونون في جماعات سياسية ضاغطة تظهر الأعمال الإرهابية. العرب، وهنا أقصد العرب العاديون لا الذين ينافقهم الغرب من أجل مالهم، أي الذين عاشوا في فرنسا وبريطانيا وغيرها ويدركون جيداً مستوى التهميش الذي يعانيه الملونون في أوروبا وفي فرنسا بالذات، حيث يعيشون في ضواحي المدن الكبرى في أحياء مكتظة تعاني من الفقر والأمراض الاجتماعية وانتشار الفساد والمخدرات. ولو طلب فرنسي من أصل عربي وظيفة أو حتى شقة للإيجار فقد يجد الموافقة مباشرة حتى يذكر اسمه العربي فيتلو ذلك اعتذار مباشر قد يكون غير مهذب ففرنسا ليست بلد المسواة «إيقالتي» عندما يتعلق الأمر بالفرنسيين من أصول عربية أو إفريقية بعضهم حارب مع فرنسا ضد بلاده، والبعض الآخر مات أجداده في حروب فرنسية خارجية. والوضع لا يختلف كثيراً في بلجيكا وبريطانيا. والإرهاب الثقافي، والعرقي، والاقتصادي في الداخل قد يدفع ببعض الشباب الذي أصبح له إعلام اجتماعي خاص به إلى التفكير فيما يراه ولو كان مخطئاً على أنه حرب عالمية لإعادة احترامه له.
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد فالمواقف السياسية الغربية من الإرهاب تثير الريبة في انتقائيتها وفي طرق التعامل معها. فالحكومات الغربية لا تكاد تذكر الإرهاب الإسرائيلي الذي هو ناتج عن أبشع أنواع التفرقة وهي الاحتلال الاستيطاني الذي ما زال مستمراً حتى يومنا هذا ويعتبر مخالفاً لكل المواثيق الدولية وعار على الإنسانية الحديثة، وبالقدر ذاته يسكتون عن ممارسات مماثلة تمارسها ميلشيات شيعية أتو بها للسلطة في العراق وسوريا لأنهم لا يرونها تناقض مصالحهم، وهم يتركونها تسرح وتمرح ويتغاضون عنها وربما يكون في ذلك خلق واقع موازي للممارسات الإسرائيلية ليكون مبرراً لها. وبعض الدول الغربية بدلاً من أن تحارب أسس الإرهاب ومنطلقاته تتخذه مبرراً للتدخل في المنطقة وتمارس العنف ضد المدنيين بلا تفرقة، أو تمارسه ضد جماعات ترى أنها تقف في طريق مصالحها حتى ولو لم يكن لها علاقة بالإرهاب.
ومما يلاحظ أيضاً أن الدول الغربية التي تدعي أن الإرهابيين يريدون تدمير ديمقراطيتها وحريتها وأسلوب معيشتها، تبادر مباشرة وفي أول ردة فعل لتقييد هذه الحريات وأساليب المعيشة بنفسها، أي أنها تبدو كمن يحقق أهداف الإرهابيين بيدها لا بيد عمر. العارفون بطبائع بالأمور يدركون أن تعليق الحقوق والقوانين لا يكون بالدرجة ذاتها للجميع من مبدأ المساواة ولكنها يكون بانتقائية ضد الأقليات الإسلامية والأصوات المتعاطفة معها والتي تكون رافضة لبعض السياسات الرسمية، فالغرب يعيش مرحلة تقليص الحريات المدنية فيما بعد انتهاء الحاجة لها كعوامل دعائية ضد المعسكر الشمولي في الحرب الباردة.
والغرب يتكلم عن ضرورة قبول الاختلاف ولكن الأمر يختلف إذا ما كان هذا اختلاف في داخله ويضمن اختلاف ثقافي جذري عما يسميه هو الثقافة اليهود - مسيحية. ولكبت هذا الاختلاف فهو يعرض حل من حلين: الاندماج في ثقافته بشكل كامل والتماهي معها بتخلي الأقليات عن جذورها الثقافية، وهو اندماج لم يستطع أن يفرض على بعض فئات مجتمعه تقبله؛ أو العيش تحت الرقابة البوليسية المستمرة.. ولكنه لا يعرض التكيف مع واقع هذه الأقليات ولا قبولها بشكل كامل كما هي، ولذلك أقبل شبابها على ثقافات وفنون الأقليات المهمشة كالراب والرقص والمخدرات وظهر من بينهم أعداد مهيئة لتقبل فكر كفكر داعش.
وفي الختام لا يمكن أن نتكلم عن محاربة الإرهاب دون محاربة أسبابه، ولا يمكن محاربته واستغلاله كمبرر في الوقت ذاته، فالعنف يولد العنف فقط، والعنف كما يقال مثل «البومرانق»، آلة صيد الأستراليين الأصليين، أينما قذفتها تعود إليك!.