د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
شرائع الأرض والسماء كافة تفترض في الإنسان البراءة حتى يثبت العكس، وكرم الله جل وعلى بني آدم وحملهم في البر والبحر. فكرامة الإنسان تأتي قبل أي اعتبار إلا لدى بعض التجار ومقدمي الخدمات الذين يفترضون العكس فالمواطن في نظرهم محط شك حتى يثبت لها العكس.
ففي جميع الجهات الخدمية لدينا: اتصالات، مياه وغيرها، ادفع أولاً ثم طالب بحقك ثانياً وهو حق حتى ولو كان بيننا وضوح الشمس في رابعة النهار ستتحمله أنت لأن حق الجهة مقدم على حقك، وفائدة الشك تذهب لها. وحتى المتاجر التي يفترض بها أن تحترم العملاء تعاملهم كسرقة حتى يثبت العكس. وجميع أسواق الهايبر ماركت تقريباً تتبع سياسة منع الحقائب أو حتى تفتيشها وتضع حراساً على مداخلها يفتشون أغراض المتسوقين وحقائبهم ويمنعونهم من الدخول بها ويطلبون منهم وضعها في مكتب أمانات عند الدخول والوقوف في طوابير لأخذها عند الخروج. فالعميل مشتبه به حتى يثبت العكس وهذا مبدأ يطبق وللأسف على كافة تعاملاتها سواء في الإرجاع أو الضمان أو خلافه.
وعندما سافرت للخارج لإحدى الدول المتقدمة على ما يقال، أحسست أني أفزع تلقائياً حين يكون معي كيس أو حقيبة عند الدخول لسوبر ماركت أو أحد الأسواق الكبيرة، فقد تبرمجت تماماً من أسواق انعدام الثقة الموجودة في بلادنا، وأخذت التفت يميناً ويساراً باحثاً عن رجل الأمانات ببزته السوداء حتى يمنحني قطعة كرتون بحجم «الإي فور» بها رقم أمتعتي المودعة عنده، وعن سؤال الموظف عن إمكانية الدخول بأكياسي التي اشتريتها من سوبر ماركت مجاور ارتاب في سؤالي وأعتقد أني أهم بأمر ما، ففي هذه البلاد تعتبر نزاهة المواطن فوق كل اعتبار ولا يسمح لكائن من كان أن يطعن بها.
وعندما تعيد بضاعة أو جهازاً معطوباً فالموظف في متاجرنا يطالبك بالإيصال حتى ولو كان باركود المتجر لا زال عليه، ويبدأ بسؤالك بشكل اتهامي: متأكد أنك اشتريته من عندنا؟.. أي أنه يتوجس أنك أصبت بالزهايمر ونسيت من أين اشتريت الجهاز، أو أنك تتلاعب بهم. هذا قبل أن يمرمطك ويستدعي المدير وبعض الشهود حتى تصبح قضيتك معروفة لجميع العاملين في المتجر: تفرجوا هذا المواطن أتعب نفسه ليعيد ما اشتراه من عندنا ومهتم بهذا المبلغ البسيط. أي أنهم يفترضون بك أن تكون بطراناً لا تهمك الفلوس وتشتري بضاعة أخرى. وعندما تصر على حقك يبدأ الموظف بمحاولة أغرائك بعدم استرداد نقودك: وش رأيك تأخذ شيء آخر مكانه؟ أو نعطيك كوبونات تشتري فيها مرة ثانية؟ كل هذا مع أن وزارة التجارة مشكورة بدأت في تأديب بعض هذه المتاجر.
دخلت متجراً للأحذية في أمريكا ولم أجد مقاسي بالضبط علماً بأن الشاب قاس مقاس رجلي ثم طلب مني أن أمشي ذهاباً ومجيئاً وهو يقيس مكان ضغط رجلي بالحاسوب فأحسست وكأني في عيادة طبية وليس بمتجر للأحذية، ثم وعدني بجلب المقاس المضبوط بعد يومين. عدت للمتجر لأجرب الحذاء فلاحظت خدشاً لا يذكر في جانبه وتسألت ما عسى أن يكون؟.. اعتذر الشاب مني وقال هذا خطأ الذي أرسله من المتجر الثاني، وقدم لي على الفور تخفيضاً بثلاثين في المئة على الحذاء رغم أن الحذاء ماركة رياضية سعرها ثابت. الغريب أني وجدت أن الحذاء السابق (غير المخدوش) هو المقاس الأفضل وهو جديد كلياً، فأردف البائع أنه يمكنني أيضاً أن أحصل على ذات التخفيض على الحذاء الآخر أيضاً لضياع وقتي. تعجبت من حسن المعاملة واشتريت الحذاء وتفكرت في وضع تجارتنا وتجار، وقلت لنفسي كما يردد كل مواطن يجرب التعامل الراقي في البلدان الراقية: الله يخلف علينا.
الثقة في المواطن أو العميل أساسية في التعامل، وهي من مصلحة التاجر قبل العميل، ولكن هذا الأمر لا يفقهه كثير من تجارنا وعلى وجه الخصوص أولئك الذين يحتكرون البضائع أو الخدمات، ومنها وللأسف خدمات أساسية. ومقابل التجربة التي ذكرتها أعلاه، سأسرد لكم قصة مع هايبر ماركت كبير يتبع لشركة مساهمة ومن الذي يفتشون حقائب المتبضعين ليقارن القارئ الكريم بين التعامل في دول تحترم المواطن وترى الثقة فيه أساسية وأخرى تراه مشتبه به حتى يثبت العكس. اشتريت أغراضاً من هذا الهايبر ماركت بمبلغ يقارب الخمسمائة ريال فقط، ودفعت بالبطاقة وبعد أن أدخلت الرقم السري تعطل خروج الإيصال فهرع المسؤول عن النوبة وسحب السلك بطريقة استعراضية وفصل الكهرباء، وطلب مني أن اتبعه لمكينة ثانية وأدفع مرة أخرى. قلت له أن المبلغ قد يكون انسحب في المرة السابقة فقال لي لم ينسحب وأنا مسؤول في كل الظروف! صدقته ودفعت مرة أخرى وأن احسب أن «وراه علم». بعد ساعة وصلتني رسائل من البنك أن المبلغ سحب مرتين فعدت لصاحبي وأخبرته، فقال لي: انتظر ثماني وأربعين ساعة إذا لم يعد لك المبلغ أعدته لك. بعد ثمان وأربعين ساعة عدت له وأخبرته أن المبلغ لم يُعد، فتقلبت مشاعره، وأخذ يراوغ يميناً وشمالاً، ثم قال لي لم يدخل حسابنا مبلغ ثان، وانصحك مراجعة فرع البنك!!! اتصلت بالبنك فقال لي العمليتين سليمتين وهما في حساب الهايبر ماركت والاعتراض يكون على العمليات الملغاة فقط. تملكني الغضب وقلت له: المبلغ في حسابكم ولن أتنازل عنه. ضاعت علومه، وأعطاني رقم مدير آخر اتصل به، فأجابني الآخر بالإجابة ذاتها وطلب مني الحضور للمرة الثالثة للفرع، وهناك وبعد الاتصال بوزارة التجارة، كان هناك ثلاثة مديرين، كلهم وافدون الكبير منهم آسيوي وطلبوا مني شرح القضية للآسيوي بالإنجليزية، فشرحت له ذلك فطلب أن أحضر له كشف حساب بالملغ من البنك، فأحضرت لهم كشف حساب يوضح سحب المبلغ مرتين. وإذا بالآسيوي ينظر لي بأسى ويخاطبني بالإنجليزية: أعرف أن الحق معك ولكن وقع هذه الأوراق لنرفعها للإدارة لتعوضك لأننا لو دفعنا لك «سيخصم علينا»!! أجبته بغضب: لن أوقع أي ورقة وحقي سأحصل عليه حتى ولو اضطررت لفضح تعاملكم، وتقديم شكاوى عليكم. فعقدوا اجتماعاً مصغراً قرروا بعده كتابة محضر وتعويضي.
وهنا يتضح أننا لا نثق بالإنسان ليس كعميل فقط ولكن لا نثق به كموظف أيضاً؛ نقذف به في مواجهة العملاء ولا نمنحه أي صلاحيات حتى ولو كانت خمسمائة ريال في هايبر ماركت ضخم. الصلاحيات دائماً لدي الإدارات العليا التي تكون عادة متوارية عن الأنظار أو غير متواجدة لأنه لا يوجد من هو أعلى منها ليراقبها ويحاسبها. والموظف وجوده شكلي للكلام مع العملاء فقط ولا يستطيع التصرف بأي مبلغ لأنه دائماً تحت التهديد بالخصم من مرتبه. والمواطن للأسف يتم التعامل معه بشكل مشابه حتى في الدوائر الحكومية فهو محط شك دائم، والموظف ليست لديه صلاحيات والمدير في اجتماع.
طبعاً قد تحصل على حقك في النهاية بعد المطالبة والترجي والإلحاح والتمنع ولكن لا أحد يعوضك عن وقتك، ولا جهدك، ولا تلف أعصابك، ولا كرامتك. فهذه كلف غير مرئية ولم يرد في أنظمتنا وتشريعاتنا ما ينص بالتعويض عنها. وأحياناً يبلغ الاستهتار بالتاجر أو مقدم الخدمة أن «يمرمطك» ويسبب لك الصداع عمداً قبل تعويضك بحقك، ولو قدمت شكوى فأنت لن تحصل على تعويض إلا عن حقك الأساسي فحسب.
السرقات والتلاعب تحصل حتى في جميع الدول وفي الدول المتقدمة أيضاً الفرق بيننا وبينهم أنهم يفترضون أنها استثناء وأن قلة قليلة تقدم عليها ولذا لا تعمم على الجميع، وهم يقبلون بها كجزء من العمل ويعتبرونها جزءاً من التكلفة. أما نحن فنراها الأساس ونفترض انعدام الأمانة في الجميع حتى يثبت العكس. كما أننا نفترض أن التاجر او مقدم الخدمة حر في التصرف بالطريقة التي تحلو له في تقديم خدمته لأن هذا ماله وتحت تصرفه. أما الدول الأخرى فهي تشترط عليها احترام العميل أو المواطن بشكل لائق أولاً لأن المواطن هو الأهم ولو أخل بذلك سحب تصريح التصريح منه.